أصول
الحوار وآدابه في الإسلام .. بقلم فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد
توطئة :
أحمد الله تبارك وتعالى ، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من
خلقه، ومصطفاه من رسله سيدنا محمد رسول الله ، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً ، فبلغ
الرسالة ، وأَدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجعلنا على المحجة البيضاء ، ليلها
كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله الطيبين
الطاهرين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها الأخوة :
هذه كلمات في أدب الحوار مُشتمِلَةٌ العناصر التالية : تعريف
الحوار وغايته ، ثم تمهيد في وقوع الخلاف في الرأي بين الناس ، ثم بيان لمُجمل
أصول الحوار ومبادئه ، ثم بسط لآدابه وأخلاقياته .
سائلاً المولى العلي القدير التسديد والقبول ..
تعريف :
الحوار : من المُحاورة ؛ وهي المُراجعة في الكلام .
الجدال : من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه ؛ وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم
بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها
.
والحوار
والجدال ذو دلالة واحدة ، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة:1)
ويراد
بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح
كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي
.
وقد يكون
من الوسائل في ذلك : الطرق المنطقية والقياسات الجدليَّة من المقدّمات
والمُسلَّمات ، مما هو مبسوط في كتب المنطق وعلم الكلام وآداب البحث والمناظرة
وأصول الفقة ( 1 ) .
غاية الحوار :
الغاية
من الحوار إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو تعاون من
المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه
منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق . يقول الحافظ الذهبي : (
إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ،
وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) ( 2 )
.
هذه هي
الغاية الأصلية ، وهي جليَّة بيِّنة ، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة
لهذا الغاية منها :
- إيجاد
حلٍّ وسط يُرضي الأطراف .
- التعرُّف
على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى ، وهو هدف تمهيدي هام .
- البحث
والتنقيب ، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة ، من
أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمْكَنَ ، ولو في حوارات تالية .
وقوع الخلاف بين الناس :
الخلاف
واقع بين الناس في مختلف الأعصار والأمصار ، وهو سنَّة الله في خلقه ، فهم مختلفون
في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، وكل ذلك آية من آيات
الله ، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ } (الروم:22)
وهذا
الاختلاف الظاهريّ دالُّ على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأعراض . وكتاب الله
العزيز يقرر هذا في غير ما آية ؛ مثل قوله سبحانه : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
يقول الفخر الرازي : ( والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ) .
ومن معنى
الآية : لو شاء الله جعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة .. لا رأي لهم
فيه ولا اختيار .. وإِذَنْ لما كانوا هذا النوع من الخلق المُسمّى البشر ؛ بل
كانوا في حيلتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل ، ولكانوا في الرّوح كالملائكة ؛
مفطورين على اعتقاد الحقِّ والطاعة ؛ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ،
لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع . ولكنّ الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا
مُلْهَمين . عاملين بالاختيار ، وترجيح بعض المُمْكنات المتعارضات على بعض ؛ لا
مجبورين ولا مضطرين . وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار .
أما قوله
تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
فلتعلموا
أن اللام ليست للغاية ؛ فليس المُراد أنه سبحانه خلقهم ليختلفوا ، إذ من المعلوم
أنه خلقهم لعبادته وطاعته . وإنما اللام للعاقبة والصَّيْرورة ؛ أي لثمرة الاختلاف
خلقهم ، وثمرته أن يكونوا فريقين : فريقاً في الجنة ، وفريقاً في السعير .
وقدّ
تُحْملُ على التعليل من وجه آخر ، أي خلقهم ليستعدَّ كلٌ منهم لشأنٍ وعمل ، ويختار
بطبعه أمراً وصنعة ، مما يَسْتَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش ،
فالناس محامل لأمر الله ، ويتخذ بعضهم يعضاً سخرياً ( 3 ) .
خلقوا
مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم ، وما يتبع ذلك من
إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الإيمان ، والطاعة والمعصية ( 4 ) .
وضوح الحق وجلاؤه :
وعلى
الرغم من حقيقة وجود هذا التَّبايُن بين الناس ؛ في عقولهم ومُدركاتهم وقابليتهم
للاختلاف ، إلا أن الله وضع على الحقِّ معالمَ ، وجعل على الصراط المستقيم منائرَ
.. وعليه حُمِلَ الاستثناء في الآية في قوله : { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ }
(هود:119) .
وهو
المنصوص عليه في الآية الأخرى في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } (البقرة:213) .
وذلك أن
النفوس إذا تجرَّدت من أهوائها ، وجدَّت في تَلَمُّس الحقِّ فإنها مَهْديَّةٌ إليه
؛ بل إنّ في فطرتها ما يهديها ، وتأمَّل ذلك في قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30) .
ومنه
الحديث النبوي : (( ما من مولود إلا يُولدُ على الفِطْرة ، فأبواه يُهوّدانه ،
ويُنَصِّرانه ، ويُمجِّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تُحِسّون فيها من
جَدْعاء حتى أنتم تجدعونها ؟ )) .
ويُوضح
ذلك ، أن أصول الدين ، وأمَّهات الفضائل ، وأمَّهات الرذائل ، مما يتفق العالم
الرشيد العاقل على حُسْن محموده وحمده ، والاعتراف بعظيم نفعه ، وتقبيح سيِّئه
وذمِّه . كل ذلك في عبارات جليَّة واضحة ، ونصوصِ بينِّة لا تقبل صرفاً ولا
تأويلاً ولا جدلاً ولا مراءاً .
وجعلها أمّ الكتاب التي يدور عليها وحولها كل ما جاء فيه من أحكام ، ولم يُعذَرْ
أحد في الخروج عليها ، وحَذَّر من التلاعب بها ، وتطويعها للأهواء والشهوات
والشبهات بتعسف التأويلات والمُسوِّغات ، مما سنذكره كأصل من أصول الحوار ، ورفع
الحرج عنهم ، بل جعل للمخطيء أجراً وللمصيب أجرين تشجيعاً للنظر والتأمل ،
وتَلَمُّس الحقّ واستجلاء المصالح الراجحة للأفراد والجماعات . ولربك في ذلك
الحكمة البالغة والمشيئة النافذة .
مواطن الاتفاق :
إنّ
بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم .
ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً .
الحديث
عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال ، مما يقلّل
الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب ، كما يجعل احتمالات
التنازع أقل وأبعد .
والحال
ينعكس لو استفتح المُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع ، فلذلك يجعل ميدان
الحوار ضيقاً وأمده قصيراً ، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر ، ويحمل
كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه مُتتبِّعاً لثغراته وزَلاته ، ومن ثم ينبري
لإبرازها وتضخيمها ، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف
.
ومما قاله بعض المُتمرّسين في هذا الشأن :
دَعْ
صاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ ( نعم ) ، وحِلْ ما استطعت بينه وبين ( لا )
؛ لأن كلمة ( لا ) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها ، فمتى قال صاحبك : ( لا ) ؛
أوجَبَتْ عليه كبرياؤه أن يظلّ مناصراً لنفسه .
إن
التلفظ بـ ( لا ) ليس تفوُّها مجرداً بهذين الحرفين ، ولكنه تَحفُّز لكيان الإنسان
بأعصابه وعضلاته وغدده ، إنه اندفاع بقوة نحو الرفض ، أما حروف ( نعم ) فكلمة سهلة
رقيقة رفيقة لا تكلف أي نشاط جسماني ( 5 ) .
ويُعين
على هذا المسلك ويقود إليه ؛ إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته ؛
والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة ، وإعلان
الرضا والتسليم بها . وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب الآراء ، وتسود معه روح
الموضوعية والتجرد .
وقد قال علماؤنا : إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي ؛ الذي هو الجحود والتكذيب
؛ لا في الإثبات ، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه ؛ لذا
فإن أكثر الخلاف الذي يُورث الهوى نابع ؛ من أن كل واحد من المختلفين مصيب فيما
يُثْبته أو في بعضه ، مخطيء في نفي ما عليه الآخر ( 6 )
.
أصول الحوار :
الأصل الأول :
سلوك الطرق العلمية والتزامها ، ومن هذه الطرق :
1- تقديم
الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .
2- صحة
تقديم النقل في الأمور المنقولة .
وفي هذين
الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : (
إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل
جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي
أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 .
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .
الأصل الثاني :
سلامة
كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .
ومن
أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
1- وصف
فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار – لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار
الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا
يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه
البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .
وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً
.
الأصل الثالث :
ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك
لم يكن دليلاً ، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من
البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه
إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة .
الأصل الرابع :
الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه
المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء
المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ
الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون
مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .
وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد
مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .
ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه
بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن
الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة
الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ، وإثباتها شرعاً
أمر مفروغ منه .
إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش
مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة .
فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... }
(النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .
وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص :
{ يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) .
وقد يسوغ
النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ، فهي محل اجتهاد ؛ أما أصل الحجاب
فليس كذلك .
الربا
محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته .
ومن هنا
فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعي أو ملحد في مثل هذه القضايا ؛ لأن
النقاش معه لا يبتدئ من هنا ، لأن هذه القضايا ليست عنده مُسَلَّمة ، ولكن يكون
النقاش معه في أصل الديانة ؛ في ربوبيَّة الله ، وعبوديَّة ونبوّة محمد صلى الله
عليه وسلم ، وصِدْق القرآن الكريم وإعجازه .
ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ – غير المقصود – عند بعض
المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا ، أعني : تطبيق الشريعة – الحجاب – تعدد
الزوجات – وأمثالها في وسائل الإعلام ، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات
بقصد إثباتها أو صلاحيتها . أما إذا كان المقصود : النظر في حِكَمِها وأسرارها
وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه ، إذْ :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(الأحزاب:36)
وأخيراً فينبني على هذا الأصل ؛ أن الإصرار على إنكار
المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة ، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة ،
وليس ذلك شأن طالبي الحق .
الأصل الخامس :
التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب
الحوار :
إن إتباع
الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق
مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو
هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل – فضلاً عن المسلم – الصادق طالبٌ حقٍّ ،
باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ،
ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في
طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه .
ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .. الإحياء ج1
.
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً
قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .
وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو
لساني ) .
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :
( إن
التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى
المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة
والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما
نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض
التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا
يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم
وآلتهم ) ( 7 ) .
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً
لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات
البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ،
وينتهي إلى القطيعة .
وهذا
الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله .
الأصل السادس :
أهلية المحاور :
إذا كان
من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ،
كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا
يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً .
من الخطأ
أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل .
من الخطأ
أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق .
من الخطأ
أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق .
من الخطأ
أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل .
إذن ،
فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .
والذي
يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك
التأهيل العلمي المختص .
إن
الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد
قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ
إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ
صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
وإن من
البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .
وإن حق
من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه
السلام للعبد الصالح :
{ قَالَ
لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً }
(الكهف:66) .
فالمستحسن
من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد
الصالح .
وكثير من
الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما
جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال
العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .
الأصل السابع :
قطعية النتائج ونسبيَّتها :
من المهم
في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي
لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى
. وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر
خطأ يحتمل الصواب ) .
وبناء
عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر .
فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن
فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل
واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن
غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً .
وفي
تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل
الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .
ولكن
يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .
الأصل
الثامن :
الرضا
والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما
يترتب عليها .
وإذا لم
يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً
من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء .
يقول ابن
عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على
إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .
قال الشافعي
رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا
سقط في عيني ) ( 8 ) .
آداب الحوار :
1- التزام القول الحسن ، وتجنب منهج التحدي والإفحام :
إن من
أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار
، التزام الحُسنى في القول والمجادلة ، ففي محكم التنزيل : { وَقُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن }(الاسراء :53) . { وَجَادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } (النحل: 125) .
{
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً
}(البقرة :83) .
فحق
العاقل اللبيب طالب الحق ، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية
، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز .
ومن
لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، الانصراف
عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل ، حيث قال الله لنبيه : { وَإِنْ جَادَلُوكَ
فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (الحج : 68-69 ) .
وقوله :
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(سـبأ:24) .
مع أن بطلانهم ظاهر ، وحجتهم داحضة .
ويلحق
بهذا الأصل : تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث ، ويعتمد إيقاع الخصم في
الإحراج ، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغاً .. فإن كسب القلوب مقدم على كسب
المواقف . وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه ، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب
تسليمه وإذعانه ، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ، ولو وُجِدَت القناعة العقلية .
والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار
الأعداء واستكفاء الإناء . وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ، ورفع الصوت ، وانتفاخ
الأوداج ، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً . ومن أجل هذا فليحرص المحاور ؛
ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير ، ورفع الصوت لا
يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً ؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ
صوته – في الغالب – إلا لضعف حجته وقلة بضاعته ، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه
بالعويل . وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان ، والفكر المنظم والنقد الموضوعي ،
والثقة الواثقة .
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب
استدعاء المقام ونوع الأسلوب ، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب ، استفهامياً كان
، أو تقريرياً أو إنكارياً أو تعجبياً ، أو غير ذلك . مما يدفع الملل والسآمة ،
ويُعين على إيصال الفكرة ، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين .
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء
إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ، وطغى وظلم
وعادى الحق ، وكابر مكابرة بيِّنة ، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة :
{ وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: 46)
.
{ لا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم } (النساء:
من الآية148)
ففي
حالات الظلم والبغي والتجاوز ، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه
، وتسفيه رأيه ؛ لأنه يمثل الباطل ، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً
.
وقبل
مغادرة هذه الفقرة من الأدب ، لا بد من الاشارة إلى ما ينبغي من العبد من استخدام
ضمير المتكلم أفراداً أو جمعاً ؛ فلا يقول : فعلتُ وقلتُ ، وفي رأيي ، ودَرَسْنا ،
وفي تجربتنا ؛ فهذا ثقيل في نفوس المتابعين ، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس ، وقد
يؤثر على الإخلاص وحسن القصد ، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي ، ومن اللائق أن
يبدلها بضمير الغيبة فيقول : يبدوا للدارس ، وتدل تجارب العاملين ، ويقول المختصون
، وفي رأي أهل الشأن ، ونحو ذلك .
وأخيرا
فمن غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار ألا يَفْتَرِضَ في صاحبه الذكاء
المفرط ، فيكلمه بعبارات مختزلة ، وإشارات بعيدة ، ومن ثم فلا يفهم . كما لا يفترض
فيه الغباء والسذاجة ، أو الجهل المطبق ؛ فيبالغ في شرح مالا يحتاج إلى شرح وتبسيط
مالا يحتاج إلى بسط .
ولا شك
أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهومهم ، فهذا عقله متسع بنفس رَحْبة ، وهذا
ضيق العَطَنْ ، وآخر يميل إلى الأحوط في جانب التضييق ، وآخر يميل إلى التوسيع ،
وهذه العقليات والمدارك تؤثر في فهم ما يقال . فذو العقل اللمّاح يستوعب ويفهم
حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور ، وآخر دون ذلك بمسافات .
ولله
الحكمة البالغة في اختلاف الناس في مخاطباتهم وفهومهم .
2- الالتزام بوقت محدد في الكلام :
ينبغي أن
يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام ، ويستطيل في الحديث ، ويسترسل بما يخرج
به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع .
يقول ابن
عقيل في كتابه فن الجدل : ( وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة ، بحيث ينصت
المعترض للمُستَدِلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل ، ثم المُستدِلُّ للمعترض حتى
يُقرر اعتراضه ، ولا يقطع أحد منها على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من بعضه ) .
وقال : (
وبعض الناس يفعل هذا تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك فضيلة إذ
المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض ، وليس ذلك علم غيب ، أو زجراً
صادقاً ، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به ) ( 9 )
.
والطول
والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف ومن حال إلى حال ، فالندوات والمؤتمرات
تُحدَّد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة ومدير الندوة ، فينبغي الإلتزام بذلك
.
والندوات
واللقاءات في المعسكرات والمنتزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها ، لتهيؤ
المستمعين . وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة أو دور التعليم الأخرى .
ومن
المفيد أن تعلم ؛ أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى
ما يلي :
1- إعجاب
المرء بنفسه .
2- حبّ
الشهرة والثناء .
3- ظنّ
المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس .
4- قِلَّة
المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم .
والذي
يبدوا أن واحداً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم ،وصدودهم ، مللهم
، واستثقالهم لمحدِّثهم .
وأنت
خبير بأن للسامع حدّاً من القدرة على التركيز والمتابعة إذا تجاوزها أصابه الملل ،
وانتابه الشُّرود الذّهني . ويذكر بعضهم أن هذا الحد لا يتجاوز خمس عشرة دقيقة .
ومن
الخير للمتحدث أن يُنهي حديثه والناس متشوفة للمتابعة ، مستمتعة بالفائدة . هذا
خير له من أن تنتظر الناس انتهاءه وقفل حديثه ، فالله المستعان .
3- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة :
كما يطلب
الالتزام بوقت محدد في الكلام ، وتجنب الاطالة قدر الإمكان ، فيطلب حُسن الاستماع
، واللباقة في الإصغاء ، وعدم قطع حديث المُحاور . وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في
التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، وقد قال الحسن بن علي
لابنه ، رضي الله عنهم أجمعين :
( يا
بنيّ إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلًم حُسْنَ
الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ولا تقطع على أحد حديثاً – وإن طال – حتى يُمسك )
.
ويقول
ابن المقفع :
(
تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ؛ ومن حسن الاستماع : إمهال المتكلم
حتى ينقضي حديثه . وقلة التلفت إلى الجواب . والإقبال بالوجه . والنظر إلى المتكلم
. والوعي لما يقول ) .
لا بدّ
في الحوار الجيِّد من سماع جيِّد ؛ والحوار بلا حُسْن استماع هو ( حوار طُرْشان )
كما تقول العامة ، كل من طرفيه منعزل عن الآخر .
إن
السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء ، وتحديد نقاط الخلاف
وأسبابه . حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب ، واحترام الرجال وراحة النفوس ، تسلم
فيه الأعصاب من التوتر والتشنج ، كما يُشْعِرُ بجدّية المُحاور ، وتقدير المُخالف
، وأهمية الحوار . ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة
4- تقدير الخصم واحترامه :
ينبغي في
مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ،
والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ،
والأساليب المهذبة .
إن تبادل
الاحترام يقود إلى قبول الحق ، والبعد عن الهوى ، والانتصار للنفس . أما انتقاص
الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم .
وما قيل
من ضرورة التقدير والاحترام ، لا ينافي النصح ، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة
وطرقه الوقورة . فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص ، والنفاق المرذول ،
والمدح الكاذب ، والإقرار على الباطل .
ومما
يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة ليتم
تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيداً عن صاحبها أو قائلها ،
كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية ؛ طابعها الطعن والتجريح والعدول عن
مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات ، والأشخاص ، والشهادات ، والمؤهلات
والسير الذاتية .
5- حصر المناظرات في مكان محدود :
يذكر أهل
العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛ قالوا : وذلك
أجمع للفكر والفهم ، وأقرب لصفاء الذهن ، وأسلم لحسن القصد ، وإن في حضور الجمع
الغفير ما يحرك دواعي الرياء ، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل .
ومما
استدل به على ذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ
تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } (سبأ:46) .
قالوا :
لأن الأجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق ، وتُشوِّش الفكر ،
والجماهير في الغالب فئات غير مختصة ؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد الأعمى ،
فَيَلْتَبسُ الحق .
أما
حينما يكون الحديث مثنى وفرادى وأعداداً متقاربة يكون أدعى إلى استجماع الفكر
والرأي ، كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطيء إلى الحق ، ويتنازل عما هو فيه من
الباطل أو المشتبه .
بخلاف
الحال أمام الناس ؛ فقد يعزّ عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أما مُؤيِّديه أو
مُخالفيه .
ولهذا
وُجِّه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يخاطب قومه بهذا ؛ لأن
اتهامهم له كانت اتهامات غوغائية ، كما هي حال الملأ المستكبرين مع الأنبياء
السابقين .
ومما
يوضح ذلك ما ذكرته كتب السير أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن
شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا
يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا
جمعتهم الطريق تلاوموا ؛وقال بعضهم لبعض لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم
في نفسه شيئاً ،ثم انصرفوا .
حتى إذا
كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا
طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم
انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه ، فباتوا يستمعون له ،
حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى
نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك . ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ
عصاه ثم خرج ، حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن
رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبه ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف
ما يُراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يُراد بها . قال ألخنس : وأنا والذي
حَلَفْتَ به ! . قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته فقال : يا
أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو
عبدمناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا
تجاثينا على الرُّكَب وكنّا كفرسيّ رهان ، قالوا منّا نبي يأتيه الوحي من السماء !
فمتى نُدرك هذا ؟! والله لا نؤمن به ولا نصدقه . قال : فقام عنه الأخنس وتركه .
6 – الإخلاص :
هذه
الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق ، فعلى المُحاور ان
يوطِّن نفسه ، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار
وحلبته .
ومن أجلى
المظاهر في ذلك : أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على الأقران ، وإظهار
البراعة وعمق الثقافة ، والتعالي على النظراء والأنداد . إن قَصْدَ انتزاع الإعجاب
والثناء واستجلاب المديح ، مُفسد للأمر صارف عن الغاية .
وسوف يكون فحص النفس دقيقاً وناجحاً لو أن المُحاور توجه لنفسه بهذه
الأسئلة :
- هل ثمَّت
مصلحة ظاهرة تُرجى من هذا النقاش وهذه المشاركة . ؟
- هل يقصد
تحقيق الشهوة أو اشباع الشهوة في الحديث والمشاركة . ؟
- وهل
يتوخَّى أن يتمخض هذا الحوار والجدل عن نزاع وفتنة ، وفتح أبواب من هذه الألوان
حقهَّا أن تسدّ .؟
ومن
التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية فقد
تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق ، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف إنتصارِ
ذاتٍ وهوى . ويدخل في باب الاخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح إذا
ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه ، ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار
ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة ، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه .
فهمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان ، ومن أيّ مكان ، ومن أيّ وعاء ،
وعلى أيّ فم .
إن من
الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت ، ولا يحبه إلا
أنت ، ولا يدافع عنه إلا أنت ، ولا يتبناه إلا أنت ، ولا يخلص له إلا أنت .
ومن
الجميل ، وغاية النبل ، والصدق الصادق مع النفس ، وقوة الإرادة ، وعمق الإخلاص ؛
أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام ،
ومدخولات النوايا .
وهذا ما
تيسر تدوينه والله وليُّ التوفيق ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
( 2 ) -
راجع شرح المواهب للزرقاني 5 / 390
.
( 3 ) -
راجع روح المعاني مجلد 4 جزء 12 ص 164 . تفسير القاسمي جزء 9 ص 182 .
( 4 ) -
تفسير المنار جزء 12 ص 194 .
( 5 ) -
أصول الحوار ص 46 .
( 6 ) -
تنبيه أولى الأبصار د. صالح السحيمي ص 28 بتصرف .
( 7 ) -
الاحياء ج 1 .
( 8 ) -
علم الجدل ص 14
( 9 ) -
علم الجدل ص 13 .