عشر وسائل لتنمية الحب بين الزوجين

 

إن من أراد زيادة رأس ماله في حسابه بالبنك ، يبحث عن وسائل لتنمية المال وزيادته ، وكذلك من أراد تنمية المودة والمحبة مع زوجته ؛ فعليه البحث عن وسائل مناسبة لزيادة درجة المحبة والوفاء بينهما ، وسنذكر بعض هذه الوسائل :


1.   تبادل الهدايا حتى وإن كانت رمزية ، فوردة توضع على مخدة الفراش قبل النوم ، لها سحرها العجيب ، وبطاقة صغيرة ملونة كتب عليها كلمة جميلة لها أثرها الفعال ، والرجل حين يدفع ثمن الهدية ، فإنه يسترد هذا الثمن إشراقًا في وجه زوجته ، وابتسامة حلوة على شفتيها ، وكلمة ثناء على حسن اختيارها ، ورقة وبهجة تشيع في أرجاء البيت ، وعلى الزوجة أن تحرص على إهداء زوجها أيضًا .
2.  تخصيص وقت للجلوس معًا والإنصات بتلهف واهتمام للمتكلم ، وقد تعجَّب بعض الشرّاح لحديث أم زرع من إنصات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الطويل وهي تروي القصة .
3.  النظرات التي تنم عن الحب والإعجاب ، فالمشاعر بين الزوجين لا يتم تبادلها عن طريق أداء الواجبات الرسمية ، أو حتى عن طريق تبادل كلمات المودة فقط ، بل كثير منها يتم عبر إشارات غير لفظية من خلال تعبيرة الوجه ، ونبرة الصوت ، ونظرات العيون ، فكل هذه من وسائل الإشباع العاطفي والنفسي ، فهل يتعلّم الزوجان فن لغة العيون ؟ وفن لغة نبرات الصوت وفن تعبيرات الوجه ، فكم للغة العيون مثلاً من سحر على القلوب ؟ .
4. التحية الحارة والوداع عند الدخول والخروج ، وعند السفر والقدوم ، وعبر الهاتف .
5.  الثناء على الزوجة ، وإشعارها بالغيرة المعتدلة عليها ، وعدم مقارنتها بغيرها .
6. الاشتراك معًا في عمل بعض الأشياء الخفيفة كالتخطيط للمستقبل ، أو ترتيب المكتبة ، أو المساعدة في طبخة معينة سريعة ، أو الترتيب لشيء يخص الأولاد ، أو كتابة طلبات المنزل ، وغيرها من الأعمال الخفيفة ، والتي تكون سببًا للملاطفة والمضاحكة وبناء المودة .
7.  الكلمة الطيبة ، والتعبير العاطفي بالكلمات الدافئة والرقيقة كإعلان الحب للزوجة مثلاً ، وإشعارها بأنها نعمة من نعم الله عليه .
8.  الجلسات الهادئة ، وجعل وقت للحوار والحديث ، يتخلله بعض المرح والضحك ، بعيدًا عن المشاكل ، وعن الأولاد وعن صراخهم وشجارهم ، وهذا له أثر كبير في الأُلفة والمحبة بين الزوجين .
9.   التوازن في الإقبال والتمنع ، وهذه وسيلة مهمة ، فلا يُقبل على الآخر بدرجة مفرطة ، ولا يتمنع وينصرف عن صاحبه كليًا ، وقد نُهِيَ عن الميل الشديد في المودة ، وكثرة الإفراط في المحبة ، ويحتاج التمنع إلى فطنة وذكاء فلا إفراط ولا تفريط ، وفي الإفراط في الأمرين إعدام للشوق والمحبة ، وقد ينشأ عن هذا الكثير من المشاكل في الحياة الزوجية .
10.  التفاعل من الطرفين في وقت الأزمات بالذات ، كأن تمرض الزوجة ، أو تحمل فتحتاج إلى عناية حسية ومعنوية ، أو يتضايق الزوج لسبب ما ، فيحتاج إلى عطف معنوي ، وإلى من يقف بجانبه ، فالتألم لألم الآخر له أكبر الأثر في بناء المودة بين الزوجين ، وجعلهما أكثر قربًا ومحبة أحدهما للآخر .

فضيلة الشيخ - إبراهيم الدويش
مجلة الفرحة - العدد (51) ديسمبر 2000م

 

انحراف الأبناء ثمن الأمومة الغائبة

هناك صنف من الأمهات تخلين عن أبنائهنَّ وانصرفن عنهم وتركنهم لمؤثرات ضارة تحيط بهم ،فأضعنهم دون أن يشعرن ، وجنين بسبب ذلك ثمارًا مرة.
وفي القريب نشرت قصة صبي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره يتاجر في السلاح الذي يصنعه بنفسه " مسدسات " ، كان قد تم القبض عليه مرارًا ، ولكنه كان يهرب من مؤسسة الأحداث التي يسلم لها ، وكان يستخدم السلاح في تخويف المارة وسرقتهم بالإكراه .
    
وهذا مما يثير الفزع لدى الجميع ؛ لأن الضحايا أطفال كنا نتوقع منهم خيرًا كثيرًا ، ونعلق عليهم آمالاً كبيرة في أن يصبحوا دروعـًا واقية لأمن المجتمع ، فإذا بهم ينقلبون على رؤوسنا شرًا وإجرامـًا .                                                                                  

وحارت التساؤلات على الشفاه من الملوم ؟ ، وما السبيل الذي يمكن أن يساعد في مواجهة هذا الخطر ؟ وكيف نحفظ لأمتنا هذه الثروة قبل أن تهدر وتتبخر معها كل آمالنا في غدٍ مشرقٍ ، مستقبل آمن ومزدهر ؟!!
    ومنذ زمن وأمثال هذه الأخبار تأتي من بعيد ، من شرق أو من غرب ، وكنا نخشى أن تنتقل إلينا العدوى ، ولكنها اليوم تخرج من بيننا ، فالخطر قد اقترب ، والنار في الثياب توشك أن تصيب الجسد ، ولازالت أمامنا فرصة للإنقاذ إذا هب القوم يدًا واحدة للنجدة بجهود صادقة وخطوات مدروسة ، فهل يعود الآباء لأداء دورهم الطبيعي والمهم في عملية التنشئة ؟ ، وهل يراعي التلفاز في مواده وبرامجه ذلك فيخلصنا من مشاهد العنف التي تشير إليها أصابع الاتهام لأنها ذات أثر خطير ومباشر في انحراف الأحداث ؟ ، وهل يرحم المجتمع كله أولئك الصغار فيساعدهم ويأخذ بأيديهم إلى شاطئ السلام ؟ ، وهل هؤلاء إلا إفراز ذلك المجتمع بما فيه من صراعات وأزمات وأطماع وتجاوزات ، حتى فهم كثيرون أنه بالقوة وحدها يحيا الإنسان ويتحقق له ما يريد ؟  وحتى لا يتشعب بنا الحديث سنكتفي بالخلل القائم في الأسرة .

الطفل يردد لغة أمه :
    الأسرة هي بداية الطريق في حياة الطفل ، فهو يتصل بأمه وأبيه قبل غيرهما ، والأم هي التي تحمل وترضع وتحب وتسهر وتناغي وتهدهد ، ومع لبن الأم يتلقى الوليد الكثير من الدروس ، ويتعلم قواعد التنشئة الأولى ، حيث يرى بعض الباحثين أن تصرفات الأبناء ترجع في نسبة كبيرة منها تصل إلى " 85% " إلى تصرفات الآباء والأمهات معهم ، وبخاصة علاقة الأم بطفلها  ، فإنها وحدها العامل المؤثر ذو القيمة الملحوظة في نشأة تصرفات معينة دون غيرها .
    يقول " هبرت مونتاجنر " العالم الفرنسي المهتم بسلوكيات الأطفال : " لقد لاحظت أن الأطفال الذي يتمتعون بروح قيادية هم في معظم الأحوال أطفال من أسر متفاهمة تسودها روح الحب ، تقوم الأم دائمـًا بالتحدث مع طفلها بلطف وحنان ، ولا تقوم بأي عمل عدواني نحوه إن هو أخطأ ، بل تعرف كيف توجهه بحزم ، ولا تدلله إلى حد التسيب " ، ويوجه نصيحة للأم فيقول : " إن طفلك يردد اللغة التي تعلمها منك ، فأي لغة تلقنينه .. ؟ " 
  فمن الذي علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه القاعدة منذ أربعة عشر قرنـًا ، حتى يحض كل مسلم أراد أن يقيم أسرة على تخير الزوجة الصالحة ، فيقول صلى الله عليه وسلم  : " فاظفر بذات الدين تربت يداك " (رواه الشيخان) .
    إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والوحي الذي علم المسلمين أن الصلاح شرط ضروري في ركني الأسرة ( الأب ، والأم ) ، فالدين هو الذي يضاعف من مسؤولياتهما نحو أولادهما ، وبه تزداد الأسرة حبـًا وارتباطـًا بأبنائها ، والسهر على تنشئتهم تنشئة صالحة حتى ينتفعوا بهم ، ويصبحوا خيرًا وأمنـًا لمجتمعاتهم ، والآباء هنا يشعرون بأن أبناءهم أمانة عندهم إن ضيعوها تعرضوا للحساب الإلهي ، والمرأة الصالحة دون غيرها هي التي تعرف حق بيتها ، يقول الله تعالى : ( فالصالحات قانتاتٌ حافظاتٌ للغيب بما حفظ الله ) [النساء/34].
    أما إذا تنازل الشاب عن هذه المزية ، وطلب ما عداها من صفات ، فلا يلومن إلا نفسه ، إن وجد هذه الزوجة تهتم بمطعمها وملبسها وزينتها أكثر من اهتمامها بأولادها ، وتحرص على عملها خارج المنزل وعلاقاتها ، أشد من حرصها عليهم وتنشغل بذلك كله عن الغاية التي من أجلها خلقت .
    إننا رأينا المرأة في أحيان كثيرة تمسكت بحقها في العمل ، وخرجت تبحث عن نفسها وزاحمت فيه الرجال ، وبحثت عن أم بديلة لأولادها ، وأقنعت نفسها بأنهم في يد أمينة ، حتى لا يتكدر صفوها ولا يحول شيء دون خروجها ، وأجادت تحسين مظهرها وضيعت في ذلك كثيرًا من وقتها ومالها ، وتباهت بأنها عاملة ناجحة ، وأم ناجحة أيضـًا ، وانطلى ذلك الكلام عليها وعلى أمثالها ، وذلك لأنها اعتبرت عملها أسمى غاية وأعظم حق لها لا ينبغي التفريط فيه أو الرجوع عنه .
    احتدم النقاش مرة بين أبوين ، طالب الرجل زوجته بأن تترك عملها حينـًا من الزمن لأجل الأبناء ، فهم في مرحلة حرجة ، وهم أشد حاجة إليها ، فأبت ، واشتد الزوج في موقفه ، وزادت في إبائها ، حتى خيرته بين أن تعمل أو تطلق ، فرضخ الأب المسكين حتى لا ينهار البناء كله ، ورضي الأبناء بنصف أم ، أو حتى ربع أم ، فذلك أفضل من لا شيء ، وسار الركب في طريق - الله وحده يعلم نهايته - ، وترعرع النبات كله بين غفلة الأبوين وانشغالهما ، قال الشاعر :

هي الأخلاق تنبت كالنبات           إذا سقيت بماء المكرمــــــات
تقوم إذا تعهدها المربـي          على ساق الفضيلة مثمــرات
ولم أر للمكارم من محـل          يهـذبها كحضن الأمهــــــــات
وهل يرجى لأطفال كمال          إذا ارتضعوا ثدي الناقصات؟!

وكان الانحراف هو الثمن :
    أجريت في أمريكا دراسة عن انحراف الأحداث ، اشترك فيها علماء في التعليم وبعض أعضاء الكونجرس ومسؤولون حكوميون ،وقد أشارت هذه الدراسة إلى أن أحد أسباب انحراف المراهقين هو أن الوالدين يقضيان أوقاتـًا طويلة في العمل ، كما أشارت أيضاً إلى أن عدد الأسر ذات العائل الواحد أصبح كبيرًا مما يعني قضاء وقت أقل مع الأطفال ، وقد أجريت الدراسة على عدد من المراهقين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والرابعة عشرة ، وقال " 25% " منهم بأنهم تناولوا مشروبات كحولية ، كما أن أكثر من " 18% " منهم يدخنون السجائر ، و " 13% " يدخنون الحشيش ، وأثبتت الدراسة أن واحدًا من كل أربعة أشخاص اشترك في نوع ما من الأعمال المؤذية قبل بلوغه السابعة عشرة .
فالأسرة التي يعمل فيها الرجل والمرأة تحطمت لأنها فقدت رباطها العاطفي والوجداني الذي كان يمسك بالأطفال في ترابط ، ويبذر في قلوبهم الحب وينشئهم متوازنين .
    ونحن نوقن بأن الله سائل كل راعٍ عما استرعى .. حفظ أم ضيع ؟ ، ونخشى الإثم العظيم المترتب على تضييع أبنائنا وفلذات أكبادنا ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " كفى بالمرء إثمـًا أن يضيع من يقوت " (رواه أحمد والحاكم) .
وأمامنا دائمـًا وفي قلوبنا وصية ربنا سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودهـا الناس والحجارة ) [التحريم/6] .
وهذه المسؤولية لا يقدرها إلا الآباء المسلمون ، فهم العيون التي تراقب ، والقلوب التي تحنو ، والعقول التي ترشد ، والمثل التي يقتدي بها الصغار .
    والوالد في هذه الأسرة  قيم على الأسرة كلها ، وهو الذي يصنع زوجته ، ثم يصنع أولاده ، وقدوة الوالد أعظم من قدوة المدرس وإمام المسجد ، وعلى المسلمين أن يكوّنوا أنفسهم ولا ينتظروا أن يكوّنهم أحد ، وعلى الرجال أن يكوّنوا أزواجهم وأولادهم .

وينشأ ناشئ الفتـيان منَّـــــا           على ما كان عـوَّدهُ أبــوهُ
وما دان الفتى بحجي ولكن            يعــوِّده التديـن أقربــــوهُ

فمهما كانت درجة التأثيرات الخارجية ،ومهما بلغ مداها فالأسرة الصالحة تعمل جاهدة لتقوية البناء حتى يصمد في مواجهة الأعاصير العاتية ، لا شغل لها ولا هم يفوق تلك المهمة السامية ، والطفل الذي نشأ في أسرة تحترم التقاليد الحسنة ، وتجل الدين ، وتظلل أبناءها بالحب والرحمة والتسامح والمودة ومحبة الخير والبر ، وتهيئ لهم المناخ الذي ينمي فيهم الاستقامة والمسؤولية ، وتحبب إليهم الأهل والأوطان ، وتربيهم على الشدة في حماية الحقوق والذود عنها ، لا يمكن لمثل هذا الطفل أن يستوي مع آخر خلّفه أبواه يعاني الغربة واليتم ، ويقع فريسة سهلة لتأثير عوامل غريبة غير التي تحبها أو تريدها الأسرة ،وشيئـًا فشيئـًا ينمو السلوك المنحرف ، فإذا كبر الصغار وكبرت معهم ميولهم الجانحة شقوا عصا الطاعة وأصبحوا مصدر خطر على المجتمع كله ، اسودت الدنيا في عيون الآباء ، وعضوا أناملهم حسرةً على ما كان بعد أن انهدم ما بنوه أو ما ظنوا أنهم بنوه .  وإنهم في الحقيقة بنوا قشورًا وصنعوا ثيابـًا زاهية تسر الناظرين ، وتخفي تحتها قسوة وغلظة على هذه الأسرة التي لم ترحمهم صغارًا ، وحرمتهم أدنى ما لهم من حقوق ، العطف ، والرحمة ، والسهر ، والتوجيه ، وحراسة النبت من العواصف التي يمكن أن تجتثه من الجذور .. لأنه عاش بلا جذور .
هل يرحم الآباء أبناءهم ؟
    إن التحديات التي تواجهنا خطيرة ، ولن يتصدى لها إلا جيل قوي الجذور ، وثيق الارتباط بعقيدته ، يقدِّر مهمته في الحياة ، ويدرك غايته ، وهذا لن يتأتى من جيل مفرَّغ من المبادئ ، جاهل بعقيدته ، تربى في غيبة الأسرة التي تخلت عنه وتركته للرياح تعبث به فانحرف به القصد ، وهوى في دائرة الضياع ، وتلفت الأبناء حولهم فرأوا أنفسهم كاليتامى ، بل أشد ، فاليتيم قد اشتهر أمره وأحاطه المجتمع برفق ورعاية ، أما هم فالناس عنهم في غفلة وأشدهم غفلة آباؤهم ، وهنا جرى على لساني قول الشاعر الحكيم :

ليس اليتيم من انتهى أبواه من           هم الحـياة وخلّـفـاه ذليــلاً
إن اليتـيم هو الذي تلْقــــى لـه            أُمّـًا تخلّـت أو أبـًا مشغـولاً

وذكرت قول الله تعالى لعباده محذرًا من الإعراض عن أمره : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) [الأنفال/ 20 ـ 21] .

حمى الله أبناءنا وهداهم إلى الخير والصواب .

( عن مجلة " الشقائق

حرية المرأة في ظل الإسلام

 

40x28.jpg (10214 bytes)

لقد أولى الإسلام المرأة مكانة عظيمة ، ورفع من شأنها بما تضافرت الشواهد عليه من الكتاب والسنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين ، وإن حدثت انتكاسات للمرأة في العهود المتأخرة نتيجة تحكيم العادات والتقاليد المخالفة للشريعة فإن الدين لا يتحمل أي جزء من المسؤولية كما يحاول أن يقول المغرضون .

ونقتصر هنا على بيان حرية المرأة في ظل السلطة ، سواء السياسية أم الأسرية أو العلمية ، ونؤكد على "السلطة" لأنها - في الغالب - تحجب الحرية إما قسراً أو رهبةً.

ففي سياق حرية المرأة في ظل سلطان الولي ( الوالد وغيره ) ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :[ استأمروا النساء في أبضاعهن ] ، قيل : فإن البكر تستحي أن تَكَلمّ ؟ قال: [ سكوتها إذنها ] . رواه أحمد والنسائي .

وهو طلب وأمر للولي باستئذان البنت في الزواج.

وفي سياق التطبيق العملي لتلك الحرية في الاختيار ، جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول : إن أبي زوّجني من ابن أخيه ؛ ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة . فدعا رسول الله أباها ، وجعل الأمر إليها ، فقالت : يا رسول الله قد أجـزت ما صنع أبي ؛ ولكن أردت أن تعلم النساء أنْ ليس للآباء من الأمر شيء. رواه أحمد والنسائي.

فاعجب معي من قوة شخصية هذه المرأة، ورعاية الإسلام لحقها في اختيار زوجها!

والأمر لم يقتصر على الولي ، بل تعدّاه إلى الخليفة ، أمير المؤمنين ورئيس البلاد ، فهذه امرأة تقف بين الجموع وترد على أمير المؤمنين عمر ، حين أراد تحديد مهور النساء ، فتقول: "ليس لك هذا يا ابن الخطاب ؛ فإن الله تعالى يقول : ( وآتيـتم إحداهن قنطاراً ) فهل تدري ما القنطار يا عمر؟ فقال أمير المؤمنين: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".

وهذه خولة بنت ثعلبة تستوقف أمير المؤمنين عمر فتقول له : قف يا عمر ، فوقف لها ، ودنا منها وأصغى إليها ، وأطالت الوقوف وأغلظت له القول (أي قالت له): "هيه يا عمر! عَهِدتك وأنت تسمى عُميراً وأنت في سوق عُكاظ ترعى القيـان بعصاك ، فلم تذهب الأيام حتى سُميت عمر ، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت  أمير المؤمين ، فاتق الله في الرعية ، واعلم أنه من خاف الوعيد قَرُب عليه البعيد ، ومن خاف الموت خشي الفوت ، فقال لها الجارود : قد أكثرت ، أيتها المرأة ، على أمير المؤمنين ، فقال عمر : دعها. السيرة الحلبية 2/724 .

وكذلك الأمر ، كانت المرأة تتمتع بالحرية ، حتى مع شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي تنصاع له كل الناس ، محبةً ورغبة في إرضائه ، فتقف المرأة تراجعه وتناقشه صلى الله عليه وسلم .. وقصة خولة بنت ثعلبة معروفة ومشهورة ، وهي التي نزلت فيها سورة "المجادلة" ، تستجيب لطلبها وترعى شأنها وشأن كل من حل بها ما حلّ بها .

د  وعن ابن عباس أن مغيثاً كان عبداً فقال : يا رسول الله اشفع لي إليها (يعني بريرة كانت زوجته ثم عتقت فطلبت مفارقته) ، فقال صلى الله عليه وسلم : [ يا بريرة اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك]  فقالت: يا رسول الله أتأمرني بذلك ؟  قال "لا، إنما أنا شافع"  فكان دموعه ( أي مغيث ) تسيل على خده ، فقال صلى الله عليه وسلم للعباس : ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرة وبُغضها إياه  ؟! ] رواه أبو داو.

والعجب ليس من إصرارها على رفض زوجها ، مع شفـاعة النبي صلى الله عليه وسلم له عندها ، وإنما في إدراكها الدقيق وتمييزها بين ما هو وحي تنصاع له ، وبين ما هو بشري من تصرفات النبي ، فتملك الاختيار فيه !

وكذلك كانت زوجاته صلى الله عليه وسلم يراجعنه القول .. فعن عمر رضي الله عنه قال : " تغضبت يوماً على امرأتي ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني - كعادة العرب في الجاهلية - فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل!! قال : فانطلقت فدخلت على حفصة ، فقلت : أتراجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، قال : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت : نعم . [رواه أحمد].

وحرية المرأة في ظل الإسلام تجاوزت تلك الحدود إلى درجة مناقشة الوحي ، فحين شعرت أم سلمة أن الوحي يخاطب الرجال ، هبت مسرعة إلى رسول الله تقول : يا رسول الله يُذكر الرجال في الهجرة ولا نُذكر ؟ فنزل قول الله تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) .

(آل عمران:195) . [رواه الحاكم في المستدرك والطبري في التفسير].

العلمانيون أخطأوا في المنهج.. وروجوا للنتائج المغلوطة:

الشيخ عبد المجيد صبح:

الإسلام كل متكامل لا يظهر تفرد كل جزء فيه إلا بالنظر الإجمالي له

سقراط رائد فكري.. رأيه في المرأة مخجل.. والديموقراطيات العريقة لم تنصف المرأة إلا أوائل هذا القرن .

الإسلام دلل المرأة ، وأسبغ عليها إنسانية مشتركة مع الرجل.. وحقوقها المالية أبلغ دليل

أقول للعلمانيين: الحكم على الإسلام بسلوك الخارجين عليه ظلم للحق.. وظلم للبحث عن الحقيقة

حاورته: مها أبو العز

كأن الشرع كان في موات وأحياه قانون الخلع!

هكذا لوح لنا كثير من المتحمسين للقانون.. ممن أكدوا أن الخلع حق مهضوم للمرأة.. أهداه لها قانون الأحوال الشخصية الجديد ،  وهؤلاء على أية حال أحسن قولاً  ممن يبنون فكرهم وحركتهم على مبدأ شائه وشائك هو أن الإسلام لم يمنح المرأة حقوقها ، ويستخدمون في إثبات مقولتهم مناهج خادعة لمن يعبدون الله على حرف.

بم نرد علي هؤلاء ؟. وكيف نتعامل مع الأفكار المغلوطة ونستخرج كنوز الشرع المدفونة لنصيغها صياغة قانونية واقعية تظهر روعتها ولا تحفر فيها ثغرات تذهب بجذورها ؟.

الشيخ عبد المجيد صبح من علماء الأزهر الشريف المهتمين بالاطلاع علي مقولات الآخرين بشأن المرأة والإسلام ، وله أسفار عديدة إلى دول أوروبية ساعدته علي أن يرى الإسلام بعين الواقع فيكتشف روعة الدين الحنيف.. يرد على بعض ما يثار في هذا الجوار .

-    كل .. لا جزء

رغم أن العلمانيين يزْهون بأنهم أصحاب منهج فإن هناك أخطاء منهجية يقع فيها من يتحدثون عن المرأة في الإسلام ويظنون أن الإسلام قد حرمها أشياء كثيرة.. فماذا تقولون ؟

موضوع المرأة في ذاته ومكانها في الحياة ومكانتها في خلق الله وقضية المرأة في الإسلام قضيتان لم يمحص فيهما الحكم ، فلم يحصحص فيهما الحق من قبل دعاة تحرير المرأة ومرجع ذلك إلى سببين :

1.  غياب الدراسة المقارنة لما كانت عليه المرأة قبل الإسلام في التاريخ الإنساني،  ولما كانت عليه في البيئة التي نزل فيها القرآن الكريم ،  ومما يغشي بصر الدارس للإسلام جهله أو تجاهله لما كان من قبل ، ثم رؤيته لبعض ما نالت المرأة من حقوق ، ولو علم ما كانت عليه من قبل ، لأدرك القفزة الحضارية التي رفع بها الإسلام المرأة ، ولعجب من تلك النهضة ، ولعلم أنها شيء ليس من صنع الفكر وآثار البيئة.

وحسب دعاة تحرير المرأة الحاليين أن يعلموا أن فيلسوفًا أوروبيًا حفظه تاريخ الفكر  ولا زال يحفظه هو (أرسطو) كان يدعو النساء بذوات الأرواح الناقصة ، وكان يري من دعائم الحكم الصالح ألا تعطي المرأة قسط ا كبير ا من الحرية ، وأن تحرم من الميراث ، وكان يري أن الحرية الواسعة لها تفسدها ، وأنها لو ورثت لانتقلت الثروة إلى الأجانب ، ولساعد ذلك علي فسادها من جهة أخرى !!

وفي بعض الكتب المقدسة أن المرأة هي التي أغوت آدم فحاق به الشقاء في الدنيا.. والمرأة في الغرب تنسب بعد زواجها إلى زوجها ، فإذا حدث وتزوجت غيره نسبت إلى ذاك الثاني!!

إن المرأة في أوروبا لم تنل حق التملك إلاّ منذ 1912م من قريب في إنجلترا وهي من أعرق دول أوروبا في النظام الديموقراطي الذي تدعى فيه المساواة التامة بين الرجل والمرأة ، في سويسرا لم يكن لها حق الرأي إلا من قريب منذ ما يقرب من ثلاث سنوات مع أن مبدأ المساواة موجود نظريًا منذ الثورة الفرنسية عام  1798م .

2 -- النظرية الجزئية ثم الحكم الكلي:

فالذين لا يعرفون الإسلام سواء من رجال ونساء أمتنا أو من الذين يعملون في الجمعيات الأهلية التي تهدف إلى تحرير المرأة من كل خير ومن يضمون أصواتهم إليهم ينظرون إلى موضوعات وقوانين المرأة في الإسلام نظرة مجزأة ثم يحكمون أنها لم تنل حقها !

مثلا : مسألة الميراث مسألة جزئية ، من لم يدرس أحوال المرأة كلها في الإسلام ويعرف أن لها نصف ما للرجل من الميراث. يقول: الإسلام يظلم المرأة! فهنا خطآن في منهج البحث:

الأول : عدم دراسة أحوال المرأة كلها في موضوع المال والميراث والنفقة.

الثاني : عدم شمول الرؤية لوضع المرأة في كل أحكام الشريعة الإسلامية.

ولو درست قضيتها في هذا الشمول بنوعيه لجاز لنا - في المقابل أن نقول: إن الإسلام دلل المرأة.

الإسلام نظام متكامل ، كل جزء منه يكمل البناء الكلي ، ولا تظهر سلامة الجزء إلا منظورًا إليه في موضعه من البناء الكلي  .

وهنا لابد من تصحيح هذا الخطأ المنهجي فيصبح الحكم بالرؤية المحيطة ، ويعرف للإسلام فضله ويعترف له بسبقه ، وأنه تنزيل من حكيم عليم ، نظر نظرة مساوية إلى الرجل والمرأة ، وعادلة في الوقت نفسه ، من حيث أن الرجل والمرأة كليهما (إنسان) ، وإنسان ذو نوع ، فطبيعة (الإنسانية) في الرجل والمرأة واحدة ، ونوع الرجولة والأنوثة مختلف ، وليست (الرجولة) علة للتفوق ، وليست الأنوثة علة للتخلف.

وعندما يقول القرآن الكريم:  " يا أيها الإنسان"  فذلك خطاب لهذا المخلوق بنوعيه  ، خطاب له بعنوان ؛ الإنسانية  التي هي قدر مشترك بين الذكور والإناث .

تجردوا للحق

يقول بعض الكتاب والمناهضين للخطاب الإسلامي في موضوع المرأة : إن الإسلام أنصف المرأة إذا قسنا ما أعطاها بما كان لها من قبله ، وأما إذا قسنا ما أعطي بما وصلت إليه اليوم كان ناقصًا وغير كاف ، بل كان غير ملائم ، وهذا مما زعمه د. نصر أبو زيد في كتاباته التي رغب بها الحصول على درجة الأستاذية وغيره من أنصار التوجهات العلمانية فما رأيكم ؟

أقول لهؤلاء: إقرؤوا كتاب د. زينب رضوان (الإسلام وقضايا المرأة) الذي جاء فيه: جاءت الشريعة الإسلامية لتضع الرجل والمرأة في إطار واحد ، موضحة أن الطبيعة البشرية في الرجل والمرأة تكاد تكون على حد سواء ، وأن الله قد وهب النساء كما وهب الرجال ، ومنح كلا  من الرجل والمرأة المواهب التي تكفي لتحمل المسؤوليات ، والتي تؤهل كلا من العنصرين للقيام بالتصرفات الإنسانية العامة والخاصة ، وكان من ثمار هذا أن مارست المرأة المسلمة في أدوار التاريخ العربي الذهبية الأولي ما كان معروفًا وجاريًا من وجوه النشاط السياسي والاجتماعي والعلمي والمدني والاقتصادي والنضالي ، كما مارست جميع الحريات ، واستمتعت بما أتيح لها من زينة الحياة الدنيا وطيبات الرزق كالرجل دون منع أو إنكار ، كما تشهد على ذلك صفحات التاريخ الإسلامي والعربي.

كثيرًا ما ينظر المدافعون عن المرأة إلى التقاليد والأعراف وواقع المرأة في البلدان الإسلامية كحكمًا على الإسلام وقوانين الإسلام .. فماذا نقول لهؤلاء ؟

من يريد أن يعرف وضع المرأة في الإسلام لابد وأن يتجرد للحق  ناظرًا أو مناظرًا ، فالإسلام حاكم علي الناس ، وعلي ما تعارفوه بينهم ، والخضوع للتقاليد والأعراف عكس الحقيقة فلا يهتدي الباحث سبيل الرشاد.

ولقد علّمنا الإسلام أن (إنسانية) المرأة أساس قرره الإسلام ، وأن (اصطفاءها) منزلة رفيعة رفعها إليها ، وأن (التكاليف العامة) مشتركة في شريعة الإسلام بين الرجل والمرأة ، وأن ما كلفهم الله به كمسلمين في جملتهم هو أمر تعاوني بين الرجال والنساء قال تعالى :  "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم. وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ،  ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو  الفوز العظيم " ( التوبة: 71 72) .

وعلمنا أيضًا أن للمنافقين والمنافقات طبيعة واحدة تنبعث منها أعمالهم فقال تعالى :  " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون. وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها  هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم " (التوبة : 67 68) .

فالمؤمنون من النساء والرجال تعاهدوا وتعاقدوا على الصالحات وهذا التعاهد والتعاقد يدل على استقلال (الشخصية) لكل من المتعاقدين ، كما يدل على تكافؤهما علي أن بنود هذا التعاقد من مسؤولياتهم ومن متعلق قدرتهم وعملهم.

ومن حيث أن الإسلام نظر للمرأة كشخصية مكتملة لها استقلالها الذاتي فقد كان من ثمار تلك النظرة في التشريع الإسلامي حقها في التملك والتصرف ، وأهلية التعاقد بنفسها ، ولها استعمال الرجال في مالها ، قال تعالى  " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا . (النساء : 7) .

وما دام لها ذاك النصيب المفروض فهو حقها الكامل ليس لأب ولا زوج ولا حاكم أن يسلبها ذاك الحق ، أو يفرض عليها فيه توجيهًا معينًا.

ومن فروع هذا الأصل أن مهر المرأة ملك خالص لها وليس لأحد فيه عليها من سبيل ، وما جري عليه العرف في بعض بلاد المسلمين خاصة مصر من إلزام الزوجة أو أهلها بإعداد الأثاث لبيت الزوجية ، وما جرى به  ذاك العرف من تعنت بعض الأزواج حتى يشترط الزوج على زوجته ما تحضر من جهاز ، يبالغ فيه إلي أن يشترط البلد الذي يتم منها الشراء ونوعه وصفاته وعدد حجراته مما جعل زواج البنت على أبيها عبئًا ثقيلاً  ينوء بحمله ، وأصبحت مشكلة اجتماعية تحتاج إلى إصلاح ، وصلاحها بالعودة إلى أصل المسألة في الشريعة الإسلامية أن يكون المهر ملكًا خاصًا الزوجة وعلى الزوج تأثيث بيت الزوجية بما يريد ، من غير اشتراط كذلك من المرأة ، وبهذا وذاك يعود الزواج سهلا  ميسرًا لا تعنس فيه الفتاة ولا يتأيم فيه الفتي !!

قال الإمام ابن حزم في المحلى : ولا يجوز أن تجبر المرأة على أن تتجهز إليه بشيء أصلا  من صداقها الذي أصدقها ، ولا من غيره من سائر مالها ، والصداق كله لها ، تفعل فيه كله ما شاءت ، لا إذن للزوج في ذلك ولا اعتراض ، قال تعالى :  "وأتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا " . (النساء : 4) .

فأوجب الإسلام للمرأة حقوقًا في مال زوجها مثل : المهر ، النفق ، الكسوة ، والإسكان ، ما دامت في عصمته ، ولم يجعل للزوج في مالها حقًا أصلا  ، بهذا التقرير تظهر خاصة من خصائص الإسلام في تكريم المرأة ، إذ أقر لها بشخصيتها وحقها في التملك ، وهذا تقرير من فرائض الإسلام لا تعرفه مدنية الغرب الحاضرة ، وأذكر أن امرأة مسلمة في إيطاليا ذهبت إلى إحدى الجهات الرسمية لها علاقة بالنظم المالية ، لتتصرف في بعض مالها ، وهي تعلم أن النظام هناك لا يبيح للمرأة هذا الحق المطلق ، فرغبت أن تبين للموظف المسئول أن الإسلام يعطيها هذا الحق ، فما إن بدأت في هذا البيان حتى بادرها هذا المسئول بقوله : أعرف ذلك أعرف ذلك. وهو غير ما عندنا!!

فأي تقدم وأي مدنية هذه وأية حضارة تلك التي لم ترتق بعد بالمرأة وبحرية تصرفها في مالها ؟!

فالمرأة في الغرب بمجرد زواجها تنسب إلى زوجها ، وفي نظامهم المالي يشاطر الزوج امرأته مالها ، وفي الإسلام تحتفظ المرأة بمالها وتحتفظ باسمها ، فأي الفريقين خير مقامًا وأهدى سبيلا ؟ وأيهما أعرف للمرأة بحقها وشخصيتها ؟!

ظلم واضح

من كان هواه ضد الإسلام يجد بغيته في مسائل فرعية تتصل بالمرأة مثل قوامة الزوج ، فهي من أكثر المسائل شهرة وتشهيرًا بالإسلام ، وخاصة عندما يقارن بينها وبين المرأة الغربية في علاقتها بزوجها ثم مقارنة تلك بواقع حال بعض المسلمين من هضم حق المرأة في بعض البيوت ، واعتبار ذلك هو الإسلام وتجاوز بعضهم حد التأديب إلى المنهي عنه فما رأي سيادتكم ؟

-- لا تتم المقارنة إلا بين متشابهين في الأحوال والصفات الرئيسة ، ولا يصح إذن مقارنة حرية المرأة في الغرب زوجًا وأيمًا بما للمرأة وما عليها في الإسلام; لأن (المرأة) هناك أهمل (نوعها) واعتبرت كأنها مجرد كائن حيواني ، أكثر من اعتبارها الإنساني.

والحق أيضًا أن الحكم على الإسلام بسلوك الخارجين في سلوكهم عنه ظلم للحق وظلم لمنهج البحث ، فمنهج البحث يقتضي تجريد الفكرة عن المفكر ، والدين عن المتدين ، كما يقتضي (المنهج) كذلك عند دراسة (جزئية) أن ترد إلى ما تنتمي إليه من موضوعها ، وبهذا الرد ينظر الباحث : هل هذه (الجزئية) تسير مع مقاصد موضوعها الكلي ، واتجاه سائر جزئياته ؟ أم أنها شاذة وشاردة عن مقاصده ، ومتنافرة وسائر جزئياته ؟ عند ذلك يكون الحكم على جزئية البحث مستوفيًا أهم عناصر البحث العلمي الصحيح ، حين توضع (الجزئية) من إطارها الكلي موضعها الصحيح ، ويظهر مدى تناسقها أو تنافرها مع سائر الجزئيات .

أما دراسة (الجزئية) مقطوعة عن موضوعها الكلي وعن ربطها بسائر جزئيات الموضوع فنتيجته : خروج عن منهج البحث ، وظلم للحقيقة والوصول إلى نتيجة لا صلة لها بحقيقة موضوعها .

 

امرأة بـحاجب واحد

الشيخ عبد السلام البسيوني

     يحلو لبعض شياطين الإنس أن يمارسوا ألعابهم بأبناء وبنات آدم ، على أعلى مستويـــات الاحتقار والعبث والاستهانة ، لا يخشون من عقلٍ رادع ، أو خلقٍ دافع  أو حياء مانع .
وكما ينقل اللاعب الماهر كرته بين رجليه ، ويرفعها لأعلى ، ثم يرفسها للخلف ، ويؤرجحها ، وينطّقُها دون أن تعترض الكرة أو تحتج يفعل بعض الشياطين هذا بحواء ، التي صارت كرة بين أيدي بارونات الموضة ، وملاحيس التحرير ، وسماسرة التنوير ، حتى مرضت هذه الحوَّاء بمرض مزمنٍ خبيث اسمه الموضة - أو الفَشَن كما تنطقها مدام فيفــي بعضشـي - وهذا المرض يشل مراكز التفكير ، ويصيب العيون بالزغللة ، ويزيد من إفرازات الهبل والخيبة القوية ، ويصيب بهوس الفَشَنْ مهما كانت مضحكة أو مبتذلة .
    فإذا نظرت إلى الشعور لوجدت تشكيلة من تسريحة الكلاب الكانيش ، إلى المفلفل كشواشي الذرة المحترقة ، إلى المجدول ستمائة جديلة إلى السايح النايح المنقوع في البريــانتين ، ومن الأسود الغطيس إلى الملون بالموف والفوشيه والأصفر الليموني وألوان الطيف السبعة ، ومن المقصوص كشراع المركب إلى كعب الكبَّاية ، وعُرف الديك ، ومن الألاجارسون إلى إزالة الشعر كله ، وهو - بلغة المتحضرين - زَلَبَطَّــه فاشنْ .
    
   وفي الثياب تجد العجب العُجاب : فمن الشوال الفضفاض إلى الاستريتش اللاصق بالجلد ، ومن السواريه مفضوح الظهر والصدر  إلى الهوت شورت والبيرشست ، والمفيش ؛ أي موضة الملْط ، بلغة المتحضرين أيضًا .
    
   ومن الحرير والفراء إلى الخيش !! - أي والله العظيم ثلاثًا - الذي صنعوا منه أزياء وتصاميم بالشيء الفلانــي .
    
   وكل ذلك له زبائنه من أصحاب المال الوفير ، والعقل الصغير ، والهدف الحقير ، وتتسابق نساء الناس اللي فوق - الذين هم مصابيح الدجى وبدور الهدى - في متابعة هذه الموضات والتقاتل على اقتنائها ، والتباهي بها ، تدليلاً على ما هن فيه من عزٍّ ، وما عليه عقولهن الأنصع بياضًا من اللبن الحليب .
    
   ولأن أمــي - رحمها الله - كانت فلاحـة ، تحرص على لبس الجلابية السودة والطرحـة ، وعاشت زمن البرقع واليشمك ، ولأنني متزمت لا أزال أنظر للدنيا بعقلية القرون الوسطى ، وأريد أن أردّ الناس ألفاً وأربعمائة سنة ، زمانَ كانت النسوة يسرن بجانب الحوائط من الحياء ويتلفعن بمروطهن فلا يعرفن من الغلس ، فإن شهادتي في هذا مجروحة ، لذا سأدع الحديث لقلم نذر نفسه للتنوير والتريقـة علـى عبـاد الله وقضـى عمـره الثمـــين في الكـلام الهايف ، والنظريات الفشنك ، رغم خفة دمه ولذع كلماته ، وسيولة مداده  ..  فماذا قال صاحب ( نص كلمة وتوته توته ) عن العبث المنظم بحواء ، والاستخفاف بأنوثتها وآدميتها وكبريائها تحت مسمى الحرية ، وحقوق المرأة  ، والتحضر والاستنارة  ، وهو في كل ما يقول في هذا الباب صادق  :
     
   كل نساء الأرض مجانين بالموضة ، وكل نساء الأرض يعشن في جبلاية كبيرة كجبلاية القرود في الجيزة  . وكما يتزعم الشمبانزي مسعود جبلاية القرود ، يتزعم إيف سان لوران ، وجي لاروش ، وكاردان جبلاية نساء العالم .
     
   فكبار مصممي الأزياء في باريس هم ملوك الجبلاية وسلاطينها ، وأي إشارة من واحد منهم تقوم بعدها كل نساء العالم  بعجين الفلاحة؛   تقليدًا للمانيكان التي تعجن عجين الفلاحة .
    
   فإذا قال واحد مجنون مثل روبين نوريزان : المايوه الذي يعري الصدر هو الموضة ، قامت النساء في جبلاية العالم بعجين الفلاحة .
    وإذا قال إيرفن سيلرز إن فستان فوق الركبة هو الموضة ، قامت نساء الأرض بعجين الفلاحة .

    
   وإذا أعلن روبين توريز أن موضة الصيف القادم هي الفستان المفتوح البطن قامت النساء بعجين الفلاحة .
    مع أن سلاطين الجبلاية هؤلاء يصدرون أوامرهم وفق ما تمليه نزواتهم الشخصية ، فسلطان مثل جي لاروش يقول إنه أصبح يكره الارتباط بحب امرأة أثناء تصميم الموضة الجديدة ، لأن المرأة التي يرتبط بها تقيده في خطوط الموضة .
فلو كانت بكرش جعل خطوط الموضة تخفي هذا الكرش ..

ولوكانت رُكَبها وحشة غطى الركبتين ..
فإذا كانت جميلة الركبتين رفع ذيــل الفستــان لفوق ..
وإذا كانت سيقانها معيزي جعل الفستان طويلاً إلى تحت ..
وإذا كانت مصابة بحروق في صدرها أقفل صدر الفستان بالضّبة والمفتاح فإذا لم يكن صدرهـــا مقفع صمم الديكولتيه واسعاً جدًّا .
    
   ولو أتيح للأطباء النفسيين أن يحللوا كل سلطان من سلاطين الجبلاية لوجدوا جذوراً عميقة لهذه الهبالات والعباطات التي يفرضونها على نساء العالم باسم الموضة .
    
   وربما توصل هؤلاء الأطباء إلى أن الرجل الذي ابتكر موضة الصدر العاري في المايوه والفستان له أخت ترقص استربتيز في كباريه ، وبناءً عليه فلتتعرّ نساء العالم ؛ حتى لا يعيّره أحد بأخته العريانة ـ وعليّ وعلى أعدائي يارب .
    
   وربما وجد الأطباء أن مخترع الميني جوب من عيله كلها أرتستات ، وبناء عليه فعلى كل سيدة محترمة أن تلبس لبس الأرتست .
    
   فلا شك أن الميول النفسية تتحكم في هؤلاء السلاطين , وقد كان ديور ـ مثلاً ـ رجلاً عجوزًا ـ زاهداً في المرأة ، ولهذا ابتكر لها موضة الفستان الطويل الذي انتشر في العالم كله ، فلما خلفه الولد المراهق إيف سان لوران أسرع يعري سيقان المرأة إلى ما فوق الركبة .
    وما أسهلها من شغلانة تقوم بها بمنتهى البساطة !!

    
   تقليعة واحدة وبعدها تصبح امبراطوراً من أباطرة الجبلاية الكبيرة تقليعة تقول للستات إن بيت فلان الفلاني للأزياء والتجميل يعلن أن الموضة الجديدة هي أن تكون الست بحاجب واحد ، وبعدها ستختفي نصف حواجب الستات من الدنيا ، وتصبح أي ست بحاجبين مضحكة لبقية الستات ، لأن حواجبها ديموديه ، يعني موضة قديمة .
     
   لا فض فوك يا  أحمد يا رجب ، على هذا الكلام الجميل الذي يعري أباطرة الموضة ، ويكشف عن هيافة اللواتي يخربن ديارهن ودنياهن وآخرتهن من أجل آخر موضة .
وأنت  أختي المســـــــــلمة  . .
        هل أيقنت أنها جبلاية ، وأنهم يريدونها حياة قرود ، بلا دين ، ولا قيم ، ولا مروءات ، ولا جنة ولا يحزنون ؟!
     
   وهل تذكرين شروط الحجاب الشرعي وأدب المسلمات في الزي ؟
أختي المســـــــــلمة   . .
        مكانك تحمدي .. أو تســــــــــــتريحي  .

 

 

 

 

اتفاقية التمييز ضد المرأة

د. رقية المحارب

شكلت ثلاثون مادة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ، التي وافق عليها مجلس الوزراء ، بشرط أنه في حالة تعارض أي حكم من أحكام هذه الاتفاقية مع أحكام الشريعة الإسلامية فإن المملكة لا تلتزم بما يتعارض معها ، والمتأمل في مواد هذه الاتفاقية ليعجب ممن احتفل بها ، وممن اعتبرها فتحًا للمرأة السعودية ، وأنها المنقذ من بعض مظاهر الظلم الواقع عليها ، نتيجة الجهل وضعف الإيمان ، لا سيما إذا عرف أن هذه الاتفاقية كانت استجابة لاضطهاد كبير عانت منه المرأة الغربية ، وتسبب استغلالها للعمل في المصانع بأجور منخفضة جدًا ، إلى بروز الحركات النسائية التي عملت لمدة طويلة حتى إقرار مثل هذه الاتفاقية ، فمعرفة خلفية هذه الاتفاقية يجعلنا نفهم أنها وضعت لبيئة مختلفة وثقافة أخرى ووضع اجتماعي مغاير ، ولا نحتاج إلى أن نؤكد أن هناك فرقا بين الممارسات التي لا تقرها الشريعة وتحتاج إلى قوة في تنفيذ الأحكام الشرعية ، وبين ما تدعو إليه هذه الاتفاقية من صياغة للواقع الاجتماعي وتغيير للثقافة الإسلامية بما يوافق فهمًا غريبًا مؤسسًا على نظرية خاطئة ومنطلقا من قيم مختلفة ورؤية غير إسلامية للحياة .

وعند تأمل هذه الاتفاقية نجد أن فيها نقاطًا إيجابية سبق إليها الشرع المطهر كما تحوي أمورًا كثيرة تصادم المعلوم من الدين بالضرورة ، ولعل أخطر ما في هذه الاتفاقية أنها بنيت على أساس غير صحيح ، كونها عرفت التمييز ضد المرأة تعريفًا يلي أي دور للدين والأخلاق كما هو واضح في المادة الأولى ، وأن الأنماط الاجتماعية والثقافية - دون تحديد للأنماط الشرعية أو غيرها الجاهلية - هي السبب في انعدام المساواة حسب مفهومهم في إعراض عن الاختلافات البيولوجية الموروثة وليست المكتسبة بين الجنسين كما هو واضح في المادة الخامسة . هناك بدون شك عادات سيئة وتقاليد غير شرعية ساهمت في وجود الدونية في بعض البيئات ولكن الحل هو في التربية الإيمانية ، سوبث منابر التنوير الشرعي في أوساط الناس ، حتى يعيش الرجل والمرأة في جو من العدل والتكامل ، لكل حقوقه الشرعية المكفولة وعلى كل الواجبات المرعية .

ومن خلال قراءة سريعة لمواد هذه الاتفاقية وبعد الاستفادة ممن كتب حولها يستنتج ما يلي : أن هذه الاتفاقية كشف العزلة والتخلف والقيود المفروضة على المرأة على أساس الجنس لا غير في كثير من دول العالم ، كما أن هذه الاتفاقية لا ترضي المرأة المسلمة ، لأن الشرع المطهر قد سن لها تشريعًا متكاملًا لا يقارن بموادها ، ومنها أن هذه الاتفاقية عرضة للتبديل والتغيير وفق أهواء بعض البشر كما جاء في البند (د) من المادة (11)  : "يجب أن تستعرض التشريعات الوقائية المتصلة بالمسائل المشمولة بهذه المادة استعراضًا دوريًا في ضوء المعرفة العلمية والتكنولوجيا الحديثة وأن يتم تنقيحها أو إلغاؤها أو لتوسيع نطاقها حسب الاقتضاء" ، وهذا إذا كان مقبولًا في أمور اجتهادية فإنه ليس مقبولًا في أمور تتعلق بمصير المرأة وجعل التشريعات تقرأ وتحذف حسب آراء بشرية يعتريها النقص بخلاف المشرع جل جلاله الذي يعلم ما يصلح لخلقه وهو اللطيف الخبير ، ومن القضايا الأساسية أن هذه الاتفاقية أغفلت بشكل غريب الخصائص المميزة للذكر  والأنثى واعتبرت هذه الفروق عقبة أساسية في تحقيق المساواة الكاملة ! وطالبت المؤتمرات المتعاقبة التي تناقش قضايا المرأة والأسرة الحكومات بأن تعيد النظر في الأدوار التي تقوم بها المرأة ، والعمل على إلغاء فكرة القوامة وأن الرجل هو المسؤول عن الكسب فيما المرأة مسؤولة عن رعاية المنزل . على سبيل المثال تطالب المادة (16) الفقرة (و) بأن يكون للمرأة الحقوق والمسؤوليات نفسها فيما يتعلق بالولاية ، والقوامة  ، والوصاية على الأطفال وتبنيهم وما شابه ذلك من  الأعراف ، وهذا واضح في معارضته لأحكام الشريعة الإسلامية القطعية في مثل قوله تعالى : (الرجال قوامون على النساء) بمفهوم القوامة الصحيح ، وكذلك تعارض هذه المادة وأشباهها كثيرًا من النصوص الصريحة فيما يخص النفقة والحضانة ، وأحكام الطلاق وغيرها ، ومن أهم الأمور التي تحتاجها المرأة ولم تتطرق لها هذه الاتفاقية الحاجات الإيمانية والأخلاقية ، حيث لم يرد أي تأكيد على أهمية الإيمان في الحياة ، بل أن مجمل مواد الاتفاقية يحث على الحرية المطلقة ، ومحاربة أي وسيلة من شأنها الحد من الرذيلة والفساد وتعاطي المخدرات وغير ذلك . ومن الأمور التي وردت في هذه الاتفاقية الدعوة إلى القضاء على أشكال الاتجار بالمرأة واستغلال بغاء المرأة ، وهذا جيد ، ولكنها لم تناد بالقضاء على أشكال الإباحية الطوعية الرائجة اليوم في كثير من بلاد العالم ، كما أن الاتفاقية عندما دعت إلى منع الاتجار بالمرأة فليس لأن الاستغلال غير أخلاقي ولكن لأنه ضد إرادة المرأة الشخصية ، بمعنى أنه لو أرادت فإن البغاء والزنا حق للمرأة لا يجب مؤاخذتها عليه . ويجب على من وقع الالتزام بهذا وهذا مصادم للفطرة ولأحكام الدين القطعية بتحريم الزنا ومقدماته ، كما أن الاتفاقية لا تقيم وزنًا لدين أكثر من ألف مليون مسلم ، وتطالب بأن تنصاع الثقافات المحلية للثقافات الغربية التي تتخذ المساواة المطلقة شعارًا لها ، دون الاعتبار لأي ضابط ، كما أنها تلغي حرية المجتمعات في الحفاظ على هويتها ، رغم الدعوة الظاهرية المستمرة إلى التسامح والانفتاح وقبول الآخر .

كما تنص هذه الاتفاقية على تشجيع التعليم المختلط (الذي ثبت فشله) في المادة (10) فقرة (جـ) : "القضاء على أي مفهوم نمطي عن دور الرجل والمرأة في جميع مراحل التعليم بجميع أشكاله عن طريق تشجيع التعليم المختلط" كما تطالب هذه الاتفاقية أن تشارك المرأة في الأنشطة الرياضية الخارجية والداخلية ، وهذا كما هو معلوم يفتح أبوابًا من الشر والفساد كما هو مشاهد عند الدول الأخرى.

إن المرأة في هذه البلاد يراد لها أن تسلك مسلك الكافرة في كل شيء والاستهانة بصغائر الأمور وإهمال التصدي لها يورث واقعًا يصعب التعامل معه . ومما ينبغي أن يعلم هنا أن أكبر قيمة تتحكم في نظر الغرب للأمور هي قيمة الحرية الشخصية المطلقة من كل قيد بينما القيمة الكبرى في حس المسلم هي عبوديته لرب العالمين ورضاءه بكل ما قضى وعلمه أن الله حكيم عليم رحيم ، لا يشرع شيئًا إلا في صالح العبد ، وأن كرامة المرأة وحقوقها لا تحتاج إلى أي قانون وضعي يحدد ما لها وما عليها ، بل هي مكفولة شرعًا ، وما تعانيه المرأة والرجل في الحياة ما هو إلا نتيجة مباشرة للبعد عن تقوى الله عز وجل ، والتسليم له ، وعدم الأخذ على أيدي السفهاء الذين يريدون بالأمة فسادًا .

وأزيد على هذه الأسباب أن بعض الرجال يكل المرأة الموظفة إلى راتبه ويعطي الأخرى من ماله ، وهذا خلاف العدل ، وهو منشأ كثير من المشكلات ،إن مجتمعنًا بحاجة ماسة إلى قنوات توجيه تساهم في توعية الرجل إلى كيفية تسيير حياته الزوجية معددًا كان أو غير ذلك ، وكذلك تعتني بتثقيف المرأة أن تعدد زوجها ليس بالضرورة علامة على عدم حبه لها أو تقصيره في حقها ، وألا تهتم بكلام الآخرين ما دامت في حياتها سعيدة وما دام زوجها قائمًا بالواجبات على أحسن وجه ، كما إنه من المهم أن تنظر المرأة التي اختار زوجها أن يعدد إلى الحياة نظرة إيجابية ، وتحاول أن تهيئ وسائل السعادة وهي كثيرة ، وأن المؤمل بالرجل الذي يعزم على التعدد أن يتلطف في أخبار زوجته ، وأن يختار الأوقات المناسبة ، وأن يعلم أن الأمر ليس هينًا على المرأة مهما بلغت من مكانة ،وأن يبالغ لا سيما في الأيام الأولى من زواجه في إظهار ألوان المودة للأولى ، وإشعارها بأن مكانتها في ازدياد ، وأن زواجه من أخرى لا يعني بحال موقفًا منها ولا انصرافًا عنها ، كما أنه على من عدد أن يتجنب كافة أنواع الظلم بالكلمة ، أو بالتقصير في النفقة أو غير ذلك ، وأن يدرك الرجل المعدد أن استهانته بالعدل قد يتسبب في انتكاسة المرأة الصالحة وتركها لطريق الخير ويتحمل هو نتائج هذا الأمر ، وإن الأمل كبير في أن يحرص الجميع على تقوى الله عز وجل وأن توزن الأمور بموازينها الصحيحة دون إفراط أو تفريط في الواجبات والحقوق والله يتولى الصالحين .

فوصيتي لكل مؤمن ومؤمنة أن يتقي الله وأن يقوم بواجبه تجاه الآخر كما أمر الله ، وأن يتذكر المسلم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : [ استوصوا بالنساء خيرًا ] ومن ذلك حفظها عن أن تفتن أو تُفتن وعدم ظلمها ، والبعد عن سرقة مالها أو التقصير في إعطائها حقوقها الشرعية وعدم امتهانها وتأهيلها لتقوم بمهمتها الأساسية في بيتها وإبعادها عن اتباع خطوات الشيطان من ملبس أو فكر أو غيره ، إن ما جاء في هذه الاتفاقية من خير للمرأة ليس بجديد بل سبق به الشرع ويحتاج إلى تفعيل وتطبيق وما جاء فيها من شر وفتنة فالواجب التنبيه عليه واقامة الحجة والتحذير من عواقب الاستجابة لمرضى القلوب والانتباه للضغوط الدولية وأن هناك من يعلق آمالًا عريضة على هذه الاتفاقية وأولهم منظمة العفو الدولية لتكون مدخلًا لانسلاخ المرأة من أغلى ما تملك وهو دينها ، وهذه فرصة للخطباء والعلماء والدعاة وللمرأة لبث الوعي الشرعي في أوساط الناس وخصوصًا النساء وأولياء أمورهن ولبيان مصادمة هذه الاتفاقية لكثير من مقاصد الشريعة ، والله غالب على أمره ، والله يتولى المصلحين .

امرأتان مؤمنتان في رحلة التحرر النسوي الجاد

  شهرزاد العربي   

في السنوات الأخيرة من القرن الماضي , وبداية القرن - الذي يوشك على الانتهاء - ظهرت إرهاصات أولية في دول مختلفة من العالم الإسلامي , على مستوى النخبة أولاً - كما هو بالنسبة للجزائر ومصر وتونس - ثم على مستوى الأجهزة الرسمية للدولة ثانياً - كما هو بالنسبة لإيران - ترى أن تطوير العالم الإسلامي وتحديثه يمر عبر "المرأة" , فالنهضة والتقدم ومحاربة الاستعمار , والقضاء على التخلف , كل هذه الظواهر جميعها , تبدأ بالمرأة وتنتهي عندها , ولا شك أن ذلك ارتبط مدنياً وسياسياً - بل وحضارياً - بحالة العجز , وبالتأثر بالآخر ؛ ولذلك لا غرو حين تكون قضية المرأة مسألة "رجالية" بالدرجة الأولى , على الرغم من أنها تطورت بعد ذلك لتشمل المرأة .

وعلى طول قرن - ها هو يمضي دون رجعة - شغل موضوع المرأة - مكانتها وأدوارها وحرياتها وحقوقها - كثيراً من الكُّتاب العرب والمسلمين , وتتخذ النقاشات بشأنها طابعاً حاداً يضعها ضمن الموضوعات الأكثر إثارة للجدل والخلاف في العالمين العربي والإسلامي"(1) , لكن ذلك الانشغال البحثي - وأحياناً الاستهلاكي - وتلك النقاشات الحادة بين تيارات مختلفة أكثرها وضوحاً دعاة الفكر اليساري , وأصحاب المشروع الحضاري الإسلامي , لم تؤتِ أُكُلها , وبقيت قاصرة على ما يمكن أن نطلق عليه "حديث الرفاهية" ؛ باعتبارها مجالاً للتنافس والصدام , وليس من الضروري أن يكون هذا العمل واعياً , هذا بالنسبة للطرف الأولي , أما فيما يتعلق بالفريق الإسلامي - وإن اختلفت جماعاته وفرقه وتنظيماته - فقد تمكن من إيقاف الزحف نحو معاني القداسة والقيم , وبذلك منع - في حدود ما أتيحت له من قوة وظروف - الذوبان الكلي في ثقافة الآخر .

يلاحظ أن الهجمة - في بدايتها - على التخلف من خلال دفع المرأة إلى التمرد على التقاليد ؛ كانت براقة وجذابة , كأي دعوة جديدة للتغيير , هذا إلى جانب أسباب أخرى ارتبطت بالأفكار الجديدة نفسها , منها أنها دعوة لحقوق المرأة في ضوء الشريعة الإسلامية كما هو في كتاب "الاكتراث في حقوق الإناث" للكاتب والشاعر الجزائري (محمد بن مصطفى بن الخوجة)(2) , وإن كانت قراءته تُبرِز حقوق الرجل أكثر من حقوق المرأة , ومنها أيضاً أن الدعوات المختلفة للتحرر لم تبتعد كثيراً عن روح الإسلام - كما في الكتاب الأول (لقاسم أمين)(3) , ومنها محاولة ربط تطوير المرأة بضرورة تقتضيها الشريعة , كما هو في كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للكاتب التونسي "الطاهر حداد"(4) .

ومن غير الواضح إن كانت الأفكار المطروحة قد بدأت انطلاقتها من أرضية الإسلام بهدف التطوير الحقيقي للمجتمعات الإسلامية أم أنها لخوف من الرفض والإبعاد , وربما التكفير -أحياناً - قد لجأت إلى ذلك الأسلوب , أم لسبب ثالث يتمثل في طبيعة التفكير السائدة آنذاك , وعلى العموم فإنه من الصعب الحكم على أفكار ظهرت منذ قرن , إلا إذا كان هدفنا التأكيد على أن الدعوات القائمة من تيارات محددة لا صلة لها بالإرث الحضاري , حتى لو كان ذاك "الإرث" دعوة جديدة لتحرير المرأة .

 والواقع أن الأمر كله أكبر من النظر إليه من خلال تعدد النقاشات وتنوُّعها , وإنما يجب علينا متابعته من خلال مشاركة المرأة - إيجابياً - في توظيف الأفكار الجديدة لصالحها , ما دامت هي المعنية بالموضوع , وبالطبع فإننا سنجد صعوبة في فصل هذا كله عن نوعية السلطة القائمة , والمناخ الاجتماعي العام , وقوة الطبقات , وهو ما نجده جلياً في التجربة المصرية ممثَّلة في السيدة (هدى شعراوي)(5) , التي تذكر بعض المراجع أنها تقدمت المظاهرات أثناء ثورة 1919 ضد الإنكليز سافرة , فكانت - حسب تلك المراجع - أول مسلمة رفعت الحجاب , وبعدها أنشأت جمعية "الاتحاد النسائي - بمصر" , وعقدت عدة مؤتمرات .

ولم يبقَ الأمر مقصوراً على حالات فردية , كما في مصر أولاً , ثم تونس بعد ذلك , وإنما ظهر باعتباره "سياسة دولة" , كما هو في إيران , فقد أصدر الشاه "رضا بهلوي" عام 1936 أمراً بمنع الحجاب , بل إنه حرم النساء (غير السافرات) من وظائفهن في أجهزة الدولة , ومنع المنتقبات من استعمال وسائل النقل العام , كما دأب على تنظيم حفلات ساهرة ومناسبات كان يدعو إليها كبار الموظفين وعلماء الدين , وكان على هؤلاء أن يظهروا مع نسائهم السافرات , مما اضطر المواطنين إلى أنواع من التحايل على هذا القانون الجائر .  

ولم يكن ما يحدث في بلاد إسلامية بعيداً عما حدث في إيران , وما كادت عدة دول تنال استقلالها حتى اهتمت بمسألة تحرير المرأة , وبأسلوب هو أقرب إلى الغرب منه إلى الإسلام , لا لأن الدين ضد التطور , وكيف يكون كذلك , وهو ما جاء إلا بهدف تحرير الإنسان ؟! , ولكن لأن الاهتمام قد تركز على "الثورة" - إن جاز التعبير - على عالم القيم وجمالياتها , ومعانيها السامية .. وهكذا وجدنا أنفسنا - بعد عقود - في حال من الصراع الرجالي / النسائي - على الرغم من مشاركة المرأة في مختلف مجالات الحياة - أدى إلى تفتت شبكة العلاقات الاجتماعية أولاً , وإلى تضليل لوعي المرأة , وإلى استعبادها , وهذه الحالة تبين الجراحات المتتالية والعميقة في الذات الاجتماعية للأمة إلى درجة جعلت من العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة سيد وجارية(6) , ومع ذلك كله فهناك من رفضت أن تكون على النحو السابق , وتمسكت بالدين الإسلامي , ومنه انطلقت , وبه حققت ذاتها , وأصبحت نموذجاً يُقتدى به , ولا شك أن هناك العديد من النساء - في عدة دولة إسلامية - لم تتوفر لدينا المعلومات الكافية عنهن , وهناك نموذجان شاع ذكرهما , واقتضى الحال سرد تجربتيهما بشكل مقتضب في هذا البحث القصير .

تمثل كل من الداعية (زينب الغزالي) , والمفكرة والباحثة الراحلة (عائشة عبد الرحمن) نموذجين في مشاركة المرأة المسلمة في الحقل العالمي للثقافة على المستوى الميداني العملي بالنسبة للأولى , وعلى المستوى البحت النظري بالنسبة للثانية , ونحن لا نسعى للمقارنة بينهما , ولكن نذكرهما باعتبارهما "رداً مفحماً" على كل التيارات الأخرى التي حاولت ربط تخلف المرأة بالإسلام , ناهيك عن أنهما نتاج المرحلة التي اعتقد البعض أن الدور الرسالي للمرأة المسلمة قد تراجع , إضافة إلى هذا كله فقد أثرتا - بشكل ملحوظ - في الأجيال , ومع ذلك فقد ظل لكل واحدة منهما حضورها المميز في نشاطها , وقد تفرغتا للعمل الإسلامي على حساب الحياة الخاصة .

وبحكم المعايشة عن قرب , والجلسات واللقاءات , فإنني أقرب إلى معرفة الداعية "زينب الغزالي" على المستوى الإنساني الشخصي , غير أن هذا لا يعني أنني بعيدة كل البعد عن كتابات الدكتورة عائشة عبد الرحمن .

وباختصار فإن علاقتي - كباحثة - بالأولى "زينب" علاقة مباشرة , طبقاً لعملها- الذي تراجع لكبر سنها , وابتعادها عن النشاط - بشكل مباشر - بعد خروجها من السجن , في عهد الرئيس السادات , أما الثانية "عائشة" فعلاقتي بها - أيضاً - مباشرة , لكن على مستوى النصوص , خصوصاً كتابها "التفسير البياني للقرآن الكريم"(7).

تفاعلت (زينب الغزالي) مع القرآن , مثلما كانت (عائشة عبد الرحمن) , وإن اختلفت الطرق بينهما من ناحية العمل , وليست من ناحية النتيجة , فالأولى طبَّقته في العمل الدعوي - بشكل مباشر - مع العامة من النساء والرجال , والثانية اهتمت به دراسة ؛ فجاءت نتائجه إلى "النخبة" أقرب منه إلى العامة , وكأنهما تتمان بعضهما , حسب المستويات الثلاثة التي يخاطبها القرآن , كما جاء في كتابة بعض المفسرين وهم : العامة , والخاصة , وخاصة الخاصة , لكنهما التقتا حول "حب القرآن" , حتى أن "زينب الغزالي" تقول - بعد صدور كتابها "نظرات في كتاب الله" -(8) : "أنا أحببت القرآن حتى عشته , فلما عشته أحببت أن أدندن به لمَن أحب , فدندنت بعض دندنة المفسرين , ولا أقول إني مفسرة , ولكني أقول : إنني محبة للقرآن , عاشقة له , والعاشق يدندن لمن يحب , والعاشق يحكي لمن يحب , ويجالس من يحب , ويعانق من يحب , فعانقت القرآن , وتحدثت به وله في جميع الملايين من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات , وعشت أدندن به في المساجد لأكثر من ستين عاماً , أي عمر الدعوة التي أسستها في المساجد منذ 1937"(9) .

هكذا إذن .. تختصر عملها الدعوي في تلك العلاقة القائمة بينها وبين القرآن , وكأنها تؤكد أن كل ما قامت به , وسُجنت من أجله , ووهبته حياتها .. هو القرآن , أسمع بها , ثم تبصّر , وهي تقول : "ما عشقت غير الدعوة - بعد القرآن طبعاً - وما قبلت بغيرها , حتى "رباط الزوجية" كان تابعاً لها , وكان توثيقي له ؛ ببقائي في الدعوة وهو المهر الذي طلبته"(10) .

  لقد مثلت "زينب الغزالي" إجابة مبكرة لدعوات تحرير المرأة , حين اختارت طريقاً غير الذي رسمت - أو بالأحرى - تمنت لها السيدة "هدى شعراوي" , ولطالما وقفت وجادلت "علماء الأزهر" من أجلها , لكنها بعد أن تعرضت لحادثة الحرق دعت الله لكي يشفيها , وعاهدته على ارتداء الحجاب ؛ فلما استجاب الله - تعالى - لدعائها , تخلت عن الاتحاد النسائي بقيادة "هدى شعراوي" , لكن هذه "الأخيرة" لم تتركها , وإنما طلبت منها مقابلتها ؛ ففعلت , وحين قابلتها أخذتها بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها , وقبَّلتها , ثم بكت , وقالت لها :

   "يا زينب كنت أريدك أن تكوني خليفتي من بعدي للاتحاد النسائي" ؛ فردت زينب الغزالي : "لقد اخترت , واختار الله , فأنا مع اختيار الله , وإن شاء الله سأظل ابنتك الوفية , وسأتحدث عنك بالخير ما حييت , وأتكلم عن فضلك وأخلاقك ومكارمك العالية , وهذا عهد بيني وبينك"(11) .

   ولم تنقطع الصلة - على المستوى الإنساني - بين "هدى شعراوي" و"زينب الغزالي" بعد خروج "هذه الأخيرة" من الاتحاد النسائي , وتأسيسها لجماعة أخرى منافسة هي (السيدات المسلمات) , ذلك التنظيم النسوي الإسلامي الذي حُلّ بعد دخولها السجن , وقد كان يقدم خدمات جليلة لآلاف العائلات المسلمة في مصر(12) , وقد كان الخلاف بينهما حول "علمانية" الحركة , ومسألة "السفور" , وهذه الأخيرة كما نلاحظ - كانت وما تزال وأعتقد أنها ستبقى - المجال الأوسع للنقاش حول "طُهر" المرأة من عدمه , وعلاقتها بالمجتمع , وبالرجل خاصة , ومع مرور الوقت تحول إلى عمل سياسي للأنظمة , كما هو في تركيا الآن(13) , وكذلك تونس وبلاد إسلامية أخرى , مع أن الجانب السياسي - في حقيقته - لا يمثل إلا بُعداً واحداً من عدة أبعاد أخرى , خاصة بالمرأة في الأساس(14) .

   والواقع أن مسألة الحجاب - التي هي خاصة بالمرأة - قد تناولها بالنقاش الرجال أيضاً , وأصبحت ملمحاً لجماعات وفرق داخل المجتمع الإسلامي , بل تطورت بعد ذلك لتجعل الغربيين - الأوربيين خاصة - يولون هذا الموضوع اهتماماً خاصاً , وينتقلون من الممارسة والمظهر إلى القيمة الدينية للموضوع , من ذلك ما ذهب إليه الباحث الألماني المسلم (مراد هوفمان) بقوله : "لنقُل إن الإسلام في تمسُّكه بالفضيلة عتيق , ولنا أن نعتز بذلك , فنؤكد أن الإسلام فخور بهذا .." , وفي هذا المجال يحرص الإسلام على التنبيه إلى دور "الملابس" أو "الزي" في الحياة , سواء بالنسبة للذكر أو الأنثى , خاصة مسألة الحجاب أو النقاب , فالإسلام يرى أن من المنطقي عدم إثارة الأشياء إذا كانت غير مرغوبة"(15) .

   وهكذا إذن .. ظهرت في المجتمعات الإسلامية حالة من الدفاع الذاتي نابعة من قوة الدين , ولم تكن العلاقات الإنسانية لتنتهي عند تغيُّر المواقف , وإنما لكلٍّ عمله ؛ ولهذا لم تشكك "زينب الغزالي" في إيمان "هدى شعراوي" - على الرغم من مواقفها التحررية - وذكرت أنها كانت تبرّ الفقراء , وتساهم في أعمال الخير , وتحج لبيت الله , وإنما الخلاف حول الأفكار المطروحة , التي توجه المجتمع سلباً أو إيجاباً , وربما لا يعلم الكثيرون أن "هدى شعراوي" حين اشتد عليها المرض طلبت رؤية "زينب الغزالي" , فذهبت إليها , ووافتها المنية , وهي بجانبها ؛ فحضرت بذلك آخر سكناتها من الدنيا , وشاركت في جنازتها ؛ لأنها كانت امرأة فاضلة متدينة , وإن اختلف مظهر "جمعيتها النسوية" عن ذلك , على حد ما ذكرت زينب الغزالي(16) .

   منذ البداية كان واضحاً أن الهدف من إنشاء "جمعية السيدات المسلمات" هو الدفاع عن الدين أمام الهجمة الجديدة , صحيح أن ذلك قد أُتبع - بعد ذلك بسنوات - بالعمل السياسي أولاً ؛ لأنه لا يمكن فصله عن العمل الاجتماعي , وثانياً لأن ظروف المرحلة اقتضت ذلك , وثالثاً - وككل عصر - تداخل العمل السياسي بالعمل الثقافي والاجتماعي والخيري , وآنذاك حين حصلت "زينب الغزالي" على التصريح - وعمرها لم يتجاوز الثماني عشرة سنة - من وزارة الأوقاف , كان معها موافقة على إنشاء خمسة عشر مسجداً , إذ جعلت منها امتداداً داخل المجتمع , واستطاعت - في وقت قصير - أن تخرِّج الواعظات , وتقيم مساجد أهلية , وتعقد (119) اجتماعاً في السنة , وخلال عِقدين من الزمن جذبت إليها خلقاً كثيراً , بما في ذلك بعض قيادات الثورة(17) .

   يلاحظ أن أعمال "جماعة السيدات المسلمات" بقيادة زينب الغزالي لم تظل محصورة في مجالات الخير , مثل رعاية الأيتام , وإقامة المساجد , وتخريج الواعظات , بل ساهمت - أيضاً - في حل المشكلات الأسرية مثل : الطلاق , والزواج , والعزوبية .. الخ , كما اهتمت بالجانب الإعلامي , وأصدرت مجلة ؛ لقيت ترحيباً واسعاً , ودعماً بالاشتراكات والإعلانات .. وعلى العموم فإن نشاط زينب الغزالي وجمعيتها حالا دون تطور نشاط "الاتحاد النسائي" على المستوى الاجتماعي , لكن بالطبع لم يحُل دون التأييد "الرسمي" للفكر الجديد , على اعتبار أنه منافس ومُلْغٍ لما سمي بالأفكار "القديمة" , وربما بهذا السبب انتهى "دور المرأة المسلمة" على صعيد الممارسة , بينما تواصل دور المرأة التقدمية - إن جاز التعبير - بدعم ملحوظ من الأنظمة , ومختلف مؤسسات الدولة .

   وتجربة زينب الغزالي على صعيد الممارسة تزامنت مع تجربة الباحثة والعالمة الجليلة (عائشة عبد الرحمن) , التي اهتمت بالدراسات القرآنية , من ذلك مؤلَّفها الشهير "التفسير البياني للقرآن" (جزءان) , حيث تناولت في "الجزء الأول" تفسير كل من : (الضحى) , (الشرح) , (الزلزلة) , (العاديات) , (النازعات) , (البلد) , (التكاثر) , وخصص الثاني لسور (العلق) , (القلم) , (العصر) , (الليل) , (الفجر) , (الهمزة) , (الماعون) .. والكتاب - بجزئيه - يعد عملاً بديعاً على مستوى التفاسير , التي تراكمت وتنوعت عبر قرون من الزمن , ولا شك أنه مشروع حضاري ؛ خصوصاً على صعيد المنهج الذي بدأه أستاذها وزوجها " أمين الخولي" .

   إن اهتمام "عائشة عبد الرحمن" بالدراسات القرآنية , وبعلوم اللغة - هو دعوة علنية للوحدة , ولجوء لكتاب الله ليس بهدف المعرفة , ولكن - كما أرى - بهدف المواجهة ؛ إذ نلاحظ انشغال الباحثين - رجالاً ونساءً - كما ذكرت بقضايا التراث , الشعر خصوصاً - لا يتعدى ذِكر التجارب البشرية المقصورة عن الفخر , أو المدح , أو الخمريات , ما يعني محاولتها تصويب الاهتمام البحثي على مستويين , الأول : يتعلق بالمنهج , والثاني : بطبيعة الموضوعات , وأعتقد أن تلك المحاولة البحثية التي جاءت بنتائج معلومة - قد أفقدت التيارات الأخرى أهدافها , من حيث جعل القرآن كتاباً تراثياً له حضوره في حياتنا المعاصرة.

   وعلى الرغم من أن ناشرات النصوص والمحققات منهن (الجامعيات) - أي اللاتي قمن بتحضير رسالة - ومنهن غير ذلك - أي اللاتي حققن النصوص خارج دائرة الدراسة الجامعية , إلا أنه يمكن القول بالنسبة لعائشة عبد الرحمن إنها قد جمعت بين الاثنين , حيث "تمكنت - على حد قول الأستاذ الراحل محمود الطناحي - بجرأة عالية وهمة صبورة , من البحث لها عن مكان بين الرجال الأفذاذ في ذلك الزمان(18) , وعاشت مع كتابات التراث , وعرفت رجالها , وعاشت معها ؛ مما ساعد بعد ذلك على أن تعيش مع القرآن وتتفاعل معه , وقد خاضت لُجة البحر وهي مؤمنة بقضية كبرى هي قضية ذلك التراث العربي , وواجبنا نحو إبرازه وكشفه وإضاءته ؛ لتقوم عليه الدراسات الصحيحة , فلا دراسة صحيحة مع غياب النص الصحيح المحرر(19) , وأهم نص صحيح كان أمامها هو القرآن الكريم .

   لا أود الدخول - بحثاً - في كتابات "عائشة عبد الرحمن" , فهذا ليس موضوعنا الآن , ولكن ذكرت ذلك بما يقتضيه السياق المتعلق بمسألة "تحرير المرأة" , أي حين حاول دعاة التحرير تضليل المرأة , بإشغالها بجسدها ومتطلباته وصراعه مع الرجل - حباً وكرهاً واستهلاكاً وجذباً - جاء الجواب من عائشة عبد الرحمن في عمل استحضاري للقرآن في حياتنا , مثلما كان العمل الدعوي "لزينب الغزالي" , إنهما حقاً نموذجان , تجاوزا مسألة "السطحية والوهمية" إلى تحرير "الأنثى" , إلى مسألة أعمق هي تحرير "الإنسان" , انطلاقاً من المجتمع الذي عاشتا فيه , وبما أن عملهما خالص وصادق فقد وصل إلى بقاع عديدة من العالم الإسلامي

'قضايا المرأة… رؤية جديدة

رحمة مالك بن نبي

ازداد الحديث في الآونة الأخـيرة حول المرأة ، وكثرت المؤلفـات التي تناولتهـا وجعلتها ساحة لدراستها فتفننت في وصف المعاناة التي تواجهها المرأة اليوم .. ومع هذه الظاهرة وهذا الاهتمام ظهرت مصطلحـات جديدة  قُرنت بموضوع المرأة ، منها : مشكلة المرأة ، أزمة المرأة ، إشكالية المرأة ، قضية المرأة ، كل هذه تعبـير وتعريف عن هذا العصر الذي عُرف أيضاً بعصر الجنس اللطيف .

ومع هذا فإن " المشكلة " وواقعها يسير معاكساً  لهذا الترويج ، وكأن واقع المرأة لا يزال هو الواقع نفسه التي تحاول هذه المؤلّفـات التغيير فيه ، هذا إذا لم يكن قد ازداد تدهوراً .

فالمرأة على الرغم مما نقـرأ من نصوص الكتاب والسنة ، وعلى الرغم مما منحهـا الإسلام من مكانة لا تقل عن مكانة الرجل ( والمؤمنون والمؤمنـات بعضهم أولياءُ بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنـكر ويقيمون الصـلاة ويؤتون الزكـاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله  إن الله عزيز حكيم ) . (التوبة:71) . وعلى الرغم مما أوصى بها من خير- لا تزال مهزومة من الداخل ومن الخارج ، ولا تزال تشعر بالضعف والإنكسار وبعدم تحقيق الذات .

وقد يضيق صدر البعض بهذا الذي أتقـدم به ، ولا بأس في ذلك فقد يرى بعض الرجال أن شريكته أو أمه أو أخته لا تعاني من هذه المشـاعر وهذه الآلام ، وهي تحظى داخل الأسرة وخارجها بطائل من الاحترام والكرامة .

ويحسن هنا أن نذكر أن هنـاك عاملاً مشتركاً بين النسـاء جميعهن ، يقرب بينهن ويربط بعضهن ببعض، وهو أن الله وهب المرأة من الأحاسيس والشفافية ما يؤهلها للقيام بوظيفتها كمربية وزوجة على أحسن وأكمل وجه . إنها تحنو على رضيعها ؛ فتستوحي من بكائه وابتسامته ما يزعجه وما يسعده، وتتعامل مع زوج قد لا يعبر عن أحاسيسه على النمط الذي تعبر به هي . ومع هذا لا تعجز عن تلبيته والتعاون معه .. إذن فإن طبيعة تكوينها وتركيبها تجعلها عرضة للتأثر بما تشعر به غيرها من النساء ، أو بما تروجه الثقافة من حولها ، وذلك على الرغم مما يقدمه لها الزوج أو الأسرة من تقدير واحترام .

بعد هذا يبدو أن الأسئلة التي لا بد أن تتـبادر إلى الأذهـان - حتى نلقي بعض الضوء على أسباب هذه المعاناة ، وربما على بعض معالم الحل - هي : لماذا لم تؤتِ هذه الكتابات أُكلهـا ؟ وما هي العوامل التي جعلت هذه الآيات الـكريمة وهذه الأحاديث الشريفة واقعاً انتفع به أسلافنا في صدر الإسـلام ؛ واقعـاً انبثقت منه نساء تركن بصماتهن على وجه التاريح ؟ وما هي الجسور التي هُدّمت فحالت بيننا وبين هذا الواقع المشرق ؟

عند المراجعة للكتابات التي اهتمت بموضوع المرأة نلمس منها صنفين :

الصنف الأول اهتم بتجميع الآيات الكريمة ، والأحـاديث الشريفـة التي تـدل وتوضح منزلة المرأة في الإسـلام ، وما تحظى به من حقوق وامتـيازات . وينبغي علينا أن ندرك هذه الحقائق ، وأن نقدر هذه  الأعمال خير تقدير ؛ حيث إنها تمثل قاعدة لا بد منها للانطـلاق لدراسة واقع المرأة ، ولفهم هذه النصوص وتخليصها من رواسب التقليد والعادات .

غير أن هذه الأعمال تبدو أحياناً وكأنها للتباهي والتفاخر ، أو أنها مجرد سرد بهدف رفع معنويات هذا المخلوق الرقيق - المرأة - التي كثيراً ما تُظلم ، عن فهم أو عن جهل ، على الرغم من الخدمات العظيمة التي تقدمها لمن حولهـا .

 إنها تمر خلال أطوار حياتها بأدوار عظيمة من ابنة بارة ، إلى زوجة صالحة ؛ ومن ثم إلى أم تتحلى بأجلّ خصال ، تمنحها القدرة على العطاء لمن حولها ، وتخلصها من الأثَرة حتى تُشرف على إعداد إنسان متوازن  فعّال ، وقد كان من الأجدى لو أن هذه المؤلفات اهتمت أيضاً برسم التطورات التي مر بها واقع المرأة منذ بداية رسالة الإسلام إلى يومنا هذا ، الذي أصبحت المرأة فيه واحدة من اثنتين : إما جـاحدة لمعنى مكانتها ورسالتها ، وإما إمرأة "رَجِلة" أي صارت رجلاً مشوهاً ، كما أطلق عليها الشيخ "محمد الغزالي" رحمه الله .

وعلينا أن نلاحظ أن رسم هذه التطورات يستلزم توضيح أن الإنسان تكون قيمته الذاتية إنطلاقاً بين قيمتين :

أما القيمة الأولى : فثابتة لا تتغير ، لا عبر الزمان ولا عبر المكان ،  قيمة كرمه الله بها منذ خلق آدم - عليه السلام - وتتمثل هذه القيمة في الامتيازات التي متَّعه الله بها من حرية عقيدة ، وكرامة نفس وعقل ، وحفظ لأسرته إلى جانب ماله ، إضافة إلى الحدود التي رسمها حتى لا يعتدي على هذه الامتيازات .

وأما القيمة الثانية : فهي قيمة اجتماعية ، تتغير بتغير الزمان والمكان، أي من عصر إلى عصر ، ومن أمة إلى أخرى، فهذه القيمة يستلهمها الفرد من ظروف الحياة التي يعيشها ، ومن مدى حماية مجتمعه للإمتيازات التي منحه الله إياها .

وخلاصة هذه العلاقة ما بين القيمتين : أنه كلما ارتفعت القيمة الاجتماعية للفرد زادت الضمانات التي تدافع عن امتيـازات الفرد ، لتقـارب القيمة الثابتة كلما استشعر هذا الفرد ، رجلاً كان أم امرأة ، ارتفاعاً لقيمته الذاتية والنفسية والمادية، والعكس صحيح .

وللتوضيح نذكر أن الله تعالى ضمن الامتيازات التي كرم بها آدم ، أن حرّم دمـه بغير الحق ، فهو بذلك وضع قيمة ثابتة للنفس البشرية ، غير أن القيمة الاجتماعية لهذه النفس قد تهبط في ظروف معينة - من استبداد وغيره - لدرجة أن يصبـح القتل أداةَ لذة ، أو أداة لتحقيق مصلحة مادية .

وهنا يبدو جلياً أن سبب شعور المرأة بالإنهزام ، وعدم تحقيق الذات ، ليس راجعاً إلى قبول أو رفض النصوص التي كرمتها فحسب ، بل أيضاً إلى طبيعة العلاقة بهذه النصوص ، وأن رصد هذه العلاقة هو الذي سييسر على الدارس تصحيح الواقع طبقاً للمبادىء القرآنية .

وأما الصنف الآخر من الكتابات: فهي تلك التي تناولت المرأة وكأنها عنصر مستقل عن باقي المجتمع .ويبدو أن هذا الصنف الأخير يمثل قطبين في صفة صراع ظاهري: قطب أراد انفتاحاً كاملاً وتقليداً أعمى للغرب ، وقطب شدّد على المرأة حتى كاد أن يخنقها ، وبرهن على أن الغُلُوّ يولد الغلو، أي أنه دفعها في كثير من الأحيان إلى مثل ما أراد لها الطرف الأول، وجعلها بذلك تهرب من واقعها وتلهث وراء الغرب

فإن دققنا النظر وأمعناَّ أدركنـا أن معاناة المرأة إنما تنبع من معاناة مجتمع بأكمله ، فما الرجل والمرأة إلا صورتان لموضع واحد وهو الإنسان . إن أمراضنا متعددة ، ومن طور إلى طور قد تختلف الأعراض التي تبدو على الرجل والمرأة من فكر عقيم واضطرابات أسرية ، وأزمات أخلاقية ، غير أن الجرثومة واحدة .

إذن ، يجب أن يكون الحل لمعاناة المرأة منسجماً مع الحلول للمشكلات الاجتماعية الأخرى ، ضمن برنامج حضاري شامل . فما أفلست المرأة إلا عندما أفلس المجتمع بأكمله .

ولن يكون الحل حلاً إلا إذا بعثنا الأمة جمعاء وسرنا في الاتجـاه الصحيح ، ويقول والدي وأستاذي "مالك بن نبي" في هذا الاطار : "يجب أن لا تكون نظرتنا إلى هذا الموضوع بدافع رفع المستوى المرأة ذاتها ، أي بدافع من مصلحة المرأة وحدها ، بل بدافع من حاجة المجتمع وتقدمه الحضاري".

وقد فهم الغرب هذا الأمر ، بعد أن ظل يتحاور عقوداً طويلة حول موضوع المرأة ويتساءل : هل المرأة كانت مثل الرجـل ؟ هل لديهـا روح ؟ هل يحق لها ما يحق للرجل ؟ هل تحتاج إلى مثل ما يحتـاج إلى الرجل ؟ ووصل مؤخـراً إلى قناعة بأن النظرة إلى المرأة على أساس أنها عنصر مستقل عن جوهر المجتمع لم تعد تخدم غاياته ومصالحه ؛ لذلك أراد بصفة متسرعة أن يمنحها مساواة صورية ، بغض النظر عن مدى صلاحية أو بُطلان هذه النتيجة ، وقد دفعته هذه المساواة الصورية إلى عرقلة أو منع الدراسات الدقيقة التي تبحث عن طبيعة الفروق بين المرأة والرجل واعتبرها فروقاً نوعية لا وزن لها في توزيع الأدوار .

ويكفينا هنا أن نذكر مثـالاً على أن الحـل الذي يكون هدفه رفع مستوى المرأة فحسب - دون النظر في البعد الاجتمـاعي لهذا الحل - يصبح حـلاً قاصراً عن خدمة ورعاية مصالح المجتمع . لقد عرض التلفاز لقطات لنساء استطعن أن ينتسبن إلى فرقة الإطفاء بعد أن أصبح الرأي العام - بسبب ضغوط الحركات النسائية - يشجع مثل هذه الأدوار للنساء أيضاً. غير أن هؤلاء الفتيات على الرغم من الرغبة التي تغلي في دمائهم للمسـاواة مع الرجال ، وعلى الرغـم مما يعتقدن ويقدرن قواهن ، فإنهن فشلن في إثبات جدارتهن وصلاحيـاتهن لمثل هذه المسؤولية ، وقد كشفت هذه اللقطات عن بعض هذه المثالب ، فتاة تسقط وهي تحمل سُلم الإنقاذ  أو أنبوب الماء لتطفىء النيران .

إذن فإن قبول الفتيات في مثل هذه المدارس - بهدف رفع مستوى المرأة في المجتمع - كان لا بد أن يفرز نتيجة سلبية في حق المجتمع ، وقد اضطرت هذه المـدارس إلى التخفيف من مستوى التدريب المطلوب ، والتغاضي عن ضعف الفتيات الوظيفي "الفسيولوجي" والنفسي ، من أجل منحهن حقاً موهوماً ؛ حق المساومة في أن تلج كل الميادين ، وفي هذه الظروف تنعكس النتائج على سلامة المجتمع بأكمله ، بحيث يصبح مستوى رجال ونسـاء المطافىء دون المقتضيـات التي تتطلبهـا مثل هذه المسؤولية ؛ فيتحول هذا الحل إلى تهديد ضد مصلحة المجتمع .. فالأجـدى إذن ، رعاية لمصلحة المجتمع ، الاعتراف  بعدم صلاحية النساء لمثل هذه المسئوليات من أجل المحافظة على مستوى الاستعدادات اللازمة لمجابهة النيران المشتعلة .

ومن هنا فإن مشكلة المرأة ستبقى قائمة ما بقينا ننظر إليها على أساس أنها عنصـر مستقل ، ما لم نبحث عن حـل ينسجم وباقي الحلول الاجتماعية ، ولبيـان هذا الأمر نقول : إن الكتب التي لم تتصور ، ولم تصّور ، المرأة على أساس أنها جزء من جوهر المجتمع تكون كمثل الذي يعالج  اليد وكأنها ليست عضواً من أعضاء كيان واحد ، إن سلامة اليد - وإن كان لها بعض الحاجات الخاصة بها ، كتقليم الأظفار أو غير ذلك من الحاجات - تعود إلى ممارسـات أسباب سلامة الجسد كله . فإن ضعف الجسد ، أو ضعفت الصلة التي بينها وبين باقي الأعضاء ، فإنها بدورها تهن وتضعف .

لهذا فإن أردنا أن تنتصر المرأة في المعركة ضد الشعور المحبط بعدم تحقيقها لذاتها ، فإن علينا أن نجابه الوضع على أساس نظرة شمولية ، أي على أساس أنه أزمة مجتمع وليس أزمة عنصر أو جنس دون الآخر ، ومن ثم فإن عليـنا أن ندرك الجـانب الفكري والثقافي المتسلط على المجتمع عامة ، ومن ثم متسلطاً عليها ، وأن نعي ما أوضحه الشيخ "الغزالي" - رحمه الله - عندما قال : "إن التخلف النفسي والذهني لا تُصـاب به الأمم بغتة ، وإنما يجيء بعد أمراض تطول ، ولا تجـد من يُحسن مداواتها" ، ولعل من المهم أن نذكر هنا أن هذه العوامل - المسيطرة على المجتمع ومن ثم على المرأة - ليست منفصلة . ولكننا نفصلها لكي نبين أهميتها على حدة، وقد يحتاج بيـان هذه الأمور إلى تفصيل طويل ، ولكن حسبنا أن نذكر هنا بعض المعالم المهمة التي جعلت المرأة تفقد ثقتها بنفسهـا ؛ الأمر الذي حـال بينها وبين شعورها بتحقيق ذاتها .

ونشير هنا إلى أن اهتمام هذه الدراسة بإبراز تدخل تلك العوامل التي جعلت المرأة تشعر بعدم تحقيق ذاتها لا يهدف إلى تحديد معاناة المرأة ؛ فإن أوجه القلق والتخبط الذي تعيشه المرأة كثيرة ومتعددة ، ولكننا تناولناه على سبيل المثال فقط .

فما هي إذن هذه العوامل التي سيطرت على البناء الفكري والثقافي للمجتمع ؟.

أولاً : الجهل

علينا أن نستوعب أن الجهل ألوان ، جهل بمعناه السهل ، وجهل مركب .

 فأما الأول:فإن مكافحته والتغلب عليه أقل صعوبة من النوع الثاني ؛ لأن صاحبه يدرك هذا النقص الذي يحمله ، أما الثاني: فإن صاحبه لا يدرك حقيقة وضعه ؛ إما لأنه يحمل أوهاماً يظنها علماً ، أو أنه مصاب بآفة " تكديس المعلومات " أو " غمر الدماغ " ، أي أنه يحمل جرثومة تجعله عاجـزاً عن تحويل معلومـاته إلى برنامج تطبيقي ، ومن ثم تؤدي به إلى مضاعفات أشد خطورة من عدم إمتلاك المعلومات . إنه باكتسابه لهذه المعلومات التي أُفرغت من فاعليتها  يصل إلى تناقض داخلي يفرز عدم ثقته بنفسه وبالعلم، فتسيطر عليه الأوهام التي تجعله أداة لخدمة أهوائه ومطية لغيره .

إن مثل هذا الجاهل يغيب عنه الفرق بين الجهل وحقيقة العلـم ، فينسى أن العلم إنما هو من أجل الإذعـان بالعبودية لله ، وتسخير الكون لأداء رسالة ، وليس من أجل تحصيل ورقة أو شهادة يطبع منها نسخـاً كثيرة ، بينما يربط صاحبها بالعلم خيط واهٍ ضعيف ، ينقطع يوم  تنقطع صلته بالكلية ، ومن ثم يخرج منه العلم دون أن يهضمه ، فيتشبع به عقله ، أو يتمثله سلوكه .

وهذا النوع من الجهل المركب هو الذي تسرب إلى المرأة ، فهي تطمح إلى تحصيل شهادة يقدرها مجتمع لم يعد يعي مسئولياته . وكثيراً ما يشجع حركة لا تتقدم  به إلى الأمام ، بل وكثيراً ما تسير به إلى الوراء .

فالفتاة اليوم كثيراً ما تجهل طبيعة أدوارها ، ورسالتها في رعاية المجتـمع  فتخطط - إن خططت - لحياتها، دون مراعاة إمكانياتها وغاياتها، ولكن طبيعة الحياة ترفض هذا التحدي ، فيصدمها الواقع بخسـائر حين لا تستطيع تحقيق أهداف كانت قد بنتها على أساس من الخيال والأوهام ، ومن ثم تصـاب بخيبة أمل ترهقها بالشعور بعدم تحقيق ذاتها .

ثانياً : الأفكار المستوردة

لن نبحث هنا فيما إذا كانت هذه الأفكار تصدَّر إلينا من خلال غزو فكري شديد  وبأساليب شتى من مسارب جلية أو خفية ، أو أننا نحن بمحض إرادتنـا - المسيّرة في كثير من الأحيان - نختار أن نستعير أفكاراً من خارج إطارنا الفكري والثقـافي لنسد به فراغاً لا بد أن يملأه شيء ما .

ومن المؤسف أن الكثير من هذه الأفكار المستعارة لا يمكن أن تتعـايش أو تتفاعل إيجابياً مع باقي الأفكار السائدة، فينتج عن هذا خليط غير متجانس يحمل جاهليات وأمراض شعوب أخرى ، تزيد رؤية الأمة والمرأة - التي هي محور دراستنا - غبشاً وضعفاً ، ونشير هنا إلى أن فشل هذه الأفكار المستوردة قد يعود إلى أحد سببين : إما أنها أفكار لم تلق نجاحاً في أرضها ، فتُوّج فشلها بإعلان موتها ، واستبدال أفكار جديدة بها ، غير أن غيابنـا عن ساحة الأفكـار حال بيننـا وبين حضور موكب جنازتها ، فبقينا مفتونين بها ., وإما أنها أفكار صالحة داخل أجوائها الأصلية، حيث تحظى بعلاقات تغذيها وتحميها، بينما تتحول إلى أفكار ميتة أو مُميتة في بنية جديدة تحرمها من تلك العلاقات الأساسية .

إذن .. فلكي تقوم الاستعـارة على أسـاس سليم لا بد أن تتم وفق منهج يحمي علاقات أساسية ثلاث ، أي أن تكون هذه الفكرة المستعارة ذات ترابط إيجابي :

أولاً : مع باقي الأفكار التي تشكل الإطار الفكري والثقافي في هذه البيئة الجديدة ، بحيث لا يكون هناك تعارض يؤدي إلى إنعدام فاعلية الفكرة أو تأثيرها تأثيراً مضاداً

وثانياً : مع الأشياء التي تخدم هذه الفكرة ، وتساعد على تحقيق نجاحها .

ثالثاً : مع الأشخاص ، أي أنها تكون فكرة تخدم غايتهم ، وتحترم قيمتهم .

وعلى سبيل المثال : نذكر أن المرأة المسلمة عندما استعارت من المرأة الغربية زيها الذي يُبدي العورة - بدل أن يبدي إنسانيتها - قامت باستعارة مشئومة تتحدى هذه العلاقات الأساسية الثلاث . وهذا الزي إنما يخدم غايات العـالم الغربي الذي يبحث عن المتعة الآنية ، والذي يعاني من أنانية جعلت المرأة تطرق باب رزقهـا ، مستعينة على ذلك بمفاتنهـا ، وفي المقـابل فإن هذا الزي يشكل خطـراً على الامتيازات التي تتمتع بها المرأة ، داخل الأسرة وفي المجتمع الإسلامي ، الذي زاده هذا الزي تدهوراً وانحلالاً .

ومن ثم فإن الاستعارات التلقائية التي لا تقوم على أساس من التخطيط والدراسة والبحث السابق تشكل خطراً يهدد الأفراد بالقلق ، والأمة بالتقاعس ، إن هـذه الحقيقة ، مهما كانت واضحة ، فإنها لا تزال غائبة عن أذهان حبيـسة التبـعية ، والمرأة وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الأفكـار المستوردة - التي لا تحتوي لا الغايات ولا الوسائل - لن تجني سوى خسائر مادية ومعنوية ، حينما تحاول تطبيق هذه الأفكار ؛ فيكون الفشل حليفها ، فتشعر أنها لم تحقق ذاتها ، بينما تجهل الواقع وهو أن الأفكار تحمل سبب فشلها .

ثالثاً: المطالبة بالحقوق وإهمال المسؤوليات

إن الحديث عن الواجبات والحقوق أصبح قاسمـاً مشتركاً بين المرأة والرجـل ، فكلاهما يحفظ مجموعة شعارات تستهويه بكلمات رنانة ، وتعده بأمنيات بعيدة عن الواقع .

والحقوق في الحقيقة ليست إلا ثمـرات تأتي نتيجة حتمية لأداء الواجبات ، وهذه العلاقة هي التي أوضحها الله عز وجل في كتابه الكـريم : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنـهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ) (النور:55) ،

و ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون ) (البقرة:40).

ومن هاتين الآيتين وغيرهما يبدو جلياً أن الله أمر الناس بتكاليف إن صدقوا فيهـا تكفل الله لهم بها حقهم .

وهذا أيضاً ما يقوله "ابن عطاء الله السكندري" في العـلاقة التي تربط بين الواجب والحق: "اجتهادك فيما لك ، وتقصيرك فيما طُلب منك دليل على انطماس البصيرة منك" ، أي أن انشغال الإنسان بحقوقه عن واجباته لن يثمر أبداً ، وتلك هي سنة الله في عباده .

وهكذا كان مبدأ الأنبياء ، وهكذا كان مبدأ سيدنا "محمد" - صلى الله وعلى آله وسلم - الذي بشّر أصحابه بالجنة إن أدوا واجباتهم وأخلصوا فيها ، ومن المؤسف أن منطق العصر قلب هذا المفهوم ، وأذاب مبدأ الواجبات، بينما أقر مبدأ السهولة  مبدأ المطالبة بالحقوق .

ولعل من هذا القبيل منطق الانتخابات الذي يعتمد نجاح المرشحين فيها على وعود قلما تتحول إلى واقع ، وفي ظل هذا المنطق أيضـاً ظهرت في العـالم وفي البـلاد الإسلامية "الحركات النسائيـة" التي تزعم السـعي لتحرير المرأة ، والتي استهوت المرأة ، وسلكت بها سبيل الأماني ، فأغرتها بحقوق موهومة ، وأنستها واجباً أساسياً ألا وهو ممارسة حرية الإرادة والقرار ممارسة سليمة ، تراعي مصالحها ضمن مجتمع بأكمله ، وتضمن لها الطمأنينة التي تخلصها من القلق .

ومما يشهد على ما نقوله أن المرأة حين خاضت غمار هذا المنطق الأعوج ، وآمنت به ، خسرت أكثر مما ربحت ، ووقعت في الاضطراب، مثلها في ذلك كمثل قرينتها في الغرب ، التي تطالب بأن تعامل في ساحة العمـل على أساس كفـاءتها لا على أساس أنوثتها ، وأن تُمنح مقابل عملها ما يُمنح الرجل .

ومن الثابت أنها لن تنال هذا الحق كاملاً  إلا إذا انتقص منها في مجـال آخر ، ما دامت تُبدي مفاتنها ، وما دامت لم تقم بواجبها ، فتصلح من حالها ، وتخرج ضمن حدود زي يجعل العمل إلى جانبها يراها على ضوء ما تقدمه من خدمات ، لا على أساس ما تعرضه من زينتها ومفاتنها .

إن الواجبات والحقوق سلسـلة متواصلة ، فمسئولية الزوج هي حـق الزوجة ، ومسئولية الزوجة هي حق الزوج ، وهذه السلسلة هي التي تمكّن من بُنيان مجتمع راسخ ، على أيدي أفراد يوازنون بين الواجبات والحقوق .

وما دامت المرأة تسلك طريق المطالبة بالحقوق ، فإن خسائرها ستتفاقم ، حتى إنها ربما أضاعت ما تتمتع به من امتيازات ؛ فزادها ذلك شعوراً بالقهر والانكسـار وبعدم تحقيق ذاتها .

رابعاً: سيطرة المادية على النفوس

من المؤسف أن الثقافة في اتجاهها إلى العالمية - أو نحو ما أطلق عليه "القرية العالمية" - أصبحت ثقافة يطغى عليها طابع الغرب الغالب ، فكما يقول " ابن خلدون " :

" المغلوب يتبع الغالب "، ولقد سيطر على واقع العالم اليوم المذهب المادي الذي يسعى لتحقيق المتعة الآنية ، ولإمتلاك الرفاهية .

والغرب اليوم - بإنصراف المسلمين عن ساحة الأحداث التاريخية - أصبح يدعم هذه الثقافة ، ثقافة اللذة والرفاهية ، بكل ما لديه من وسائل دعائية ، من إعلام ومجلات وأفلام ومغنين ومغنيات .. وغير ذلك ، فقد غيرت هذه الثقافة المرجعية من مرجعية قيم أخلاقية ، إلى مرجعية استهلاكية ، حتى أن الفرد - نفسه - تحوّل - ضمن هذه الثقافة - إلى سلعة استهـلاكية ، فلم  يعد الكون يسخَّر لخدمة الإنسان ، وإنما الإنسان يسخَّر لخدمة الماديـة التي تقوم على المنفعة والرغبـات النفسية . لم يعد الفرد يقاس بما لديه من قيم ، وما يتماثل من سلوك ، أي أنه لا يقاس وفق مبدأ ( إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات:13) ، بل أصبح يتصور واقعه وقيمته وفق ما يمتلك أو يستهلك من منتوجات .

وقد أفرزت هذه الرؤية المادية - القائمة على أساس المنفعة - عواقب خطيرة أهمها بالنسبة لموضوعنا تغيير مفهوم العمل . إن كلمة "عمل" - بمفهومها اليسير - تعني أن يسلط الإنسان جهداً للقيام بنشاط ما ، ولكي ندرك هذا التعريف وعلاقتـه بموضوعنا ، علينا أن نحلل العناصر التي يجب أن تتوافر من أجل القيام بعمل ما ، إيجابياً كان أم سلبياً :

أولاً : الإنسان الذي سيقوم بالجهد .

ثانياً : الأداة التي يستخدمها من أجل تحقيق نشاطه .

ثالثاً: الخبرات والمعارف التي ستساعد في تحقيق النشاط ، أي الطريقة لتحقيق العمل

رابعاً : المبرر والدافع للقيام بالعمل .

فإن اختفى واحد من العناصر الثلاثة الأولى أصبح العمل مستحيلاً ، وإن انعدم المبرر ، أو نقص ، أصبح العمل عبثاً .

والمرأة اليوم - بسبب الغزو الثقافي - تعاني من نقص العنصر الرابع ، الذي هـو المبرر ؛ وذلك لأنها تعيش ثقـافة مادية طغت على العقائد والأخـلاق ؛ فأحالت العمل إلى مفهوم ضيق المساحة ، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعائد المادي ، بعد أن كان مفهوماً واسعاً ، أي كما ورد في القرآن الكريم: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) . (التوبة: 105 ).

فبعد أن كان الفرد يبحث عن عمل صالح يجمع بين بُعدين ، البعد الأُخروي الذي يمنحه المبرر، ويرسي له دعائم التوازن ، والبعد الاجتماعي ، أصبح اليوم لا يبحث إلا عن عمل يضمن له بعـداً فردياً مادياً ، إن لم يحصل عليه وقع في الاضطراب ، وأرهقه شعور الفشل وعدم تحقيق الذات .

وهذا ما يلخص شعور المرأة ، خاصة إذا لم تساهم في الدخل المادي للعائلة بسبب طبيعة مسئولياتها الأخرى كأم وزوجة معطاء .

وأخيراً فقد أردنا من خـلال هذا البحث أن نرد موضـوع المـرأة إلى أبعـاده الاجتماعية الصحيحة ، وربما كان هذا  الجهد خطوة في اتجاه الحل السليم ، كما أردنا أن لا ينُظر إلى المرأة على أساس من التبرئة والإتهام ؛ فالواقع يصرخ بأن كل فرد من أفراد المجتمع يحمل بعض المسئولية فيما نعيشه اليوم . فلا شك أن الأفراد يؤثرون في الثقافة ، كما أن الثقافة تؤثر في تكوين الأفراد .

والمرأة - لأهميتها وخطورتها الاجتماعية - أصبحت تشغل مساحة كبيرة من اهتمام أولئك الذين يخططون لتوجيه أمة بأكملهـا ، بقصد تسخيرها لخدمة مصالحهم ،  وهذا لا يعني أن ننغلق على أنفسنا ، وأن نحرم أنفسنا من تجارب الآخرين "الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها" ، بل أن ننظم العلاقات التي تربطنـا بالتجارب الأخرى .

وواضح أن هذا لن يتحقق إلا بإعادة تنظيم طاقة المسلم وتوجيهها ، وذلك بإعادة قراءة القرآن ، أي قراءة سنن الله في الكتاب ، وقراءة ممارسة البشر لهذه السنن ، ومن ثم بإعادة تحديد دور المسلم ورسـالته ، فإن أدركنا هذه الحقـائق نكون قد أدركنا معنى قول الامام مالك رحمه الله حين قال: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .

أيها الباكون على المرأة .. كفى
تحرير المرأة .. أم ضياع التربية .. وإفساد المجتمع؟!

  الشيخ فاروق الرحماني (رحمه الله)

     بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد؛
    فإن أعظم العلل وأشدها خطرًا على جسد الأمة ؛ هي تلك الأمراض الاجتماعية التي تفتك بالمجتمعات وتسقط الدول ؛ كما أن أسرع التغيرات وأجلها نفاذًا إلى نخاع الأمة تلك التغيرات الاجتماعية ، خاصة في مجال المرأة . وقد قال أحد أقطاب الاستعمار: " كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية ما لا يفعله ألف مدفع".
    فهذا المعز الفاطمي ما يزال يرنو إلى فتح مصر متهيبًا غزوها ، حتى بلغه استهتار نساء الأخشيد في مصر ، فتحرك لغزوها وقال : اليوم فتحت مصر ؛ اليوم لا يردنا عنها شيء .
    ولأجل ذلك كانت قضية المرأة قضية خطيرة ، وما زال أعداء الأمة يستغلونها ؛ منذ قال جلاد ستون رئيس وزراء بريطانيا في عصره : " لا يمكن أن تتقدم بلاد الشرق إلا بأمرين:
الأول : أن يُرفع الحجاب عن المرأة المسلمة.
الثاني : أن يُغَطى بالحجاب القرآن الكريم .
    وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : [ إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعلمون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ].
إنما النساء شقائق الرجال
    وليس معنى ذلك أن المرأة رجس ونجس كما هي عند اليهود والنصارى وغيرهم ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ إنما النساء شقائق الرجال ].
- شقائق في الأصل والخلقة ، شقائق في أصل التكليف ، شقائق في جزاء الآخرة.
أما دعاة المساواة الذين باعوا عرض المرأة ، وكرامتها وعفتها وأنوثتها ، وأخرجوها من بيتها موضع كرامتها لكنس الشوارع ، وحمل الأمتعة ، وقيادة سيارات الأجرة .. وغير ذلك من الأعمال الحقيرة الممتهنة ؛ بحجة أن المرأة نصف المجتمع ، فكذبوا . فإن المرأة هي المجتمع كله والأمة بأسرها ؛ لأنها تلد لنا النصف الآخر ؛ فهي أم الرجل وأخته وزوجه وابنته .
    أيتها الأخت المسلمة .. انتبهي فأنت الضحية ، إنهم يخدعونك بتلك المفاهيم الخاطئة والأفكار الخبيثة تحت عناوين براقة مثل :" تحرير المرأة - مكانة المرأة - عمل المرأة - جمال المرأة " .. احذري استدراجهم ، تمسكي بالحجاب ، فإنهم كانوا لا يطلبون منك أكثر من كشف وجهك ، وبحجة أن كشف الوجه مختلف فيه ، غير أنهم يعلمون علم اليقين - بحكم التجارب الطويلة العديدة- أنك يوم تكشفين عن وجهك ، ويذهب ماؤه وحياؤه ستكشفين لهم عما عدا ذلك.
أيها الباكون ..
    أما انتم أيها الراثون الباكون على المرأة وحقوقها ، فإنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم ، وتبكون على ما يُحال بينكم وبينه من شهواتكم ، هذِّبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم ، فإن عجزتم عن الرجال ، فأنتم عن النساء أعجز .
لقد عاشت المرأة القطرية حقبةً  من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها ، راضية عن نفسها وعن عيشها ، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها ، أو وقفة تقفها بين يدي ربها ، أو عطفة تعطفها على ولدها ، أو جلسة تجلسها إلى جارتها ؛ تبثها ذات نفسها وتستبثها سريرة قلبها ، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها ، وائتمارها بأمر زوجها ، ونزولها عند رضاهما ، وكانت تفهم معنى الحب ، وتجهل معنى الغرام ، فتحب زوجها ؛ لأنه زوجها كما تحب ولدها لأنه ولدها ، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب ، فقلتم لها : إن هؤلاء الذي يستبدون بأمرك من اهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأيًا ولا أقدر على النظر لك من النظر لنفسك ، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك ، فازدرت أباها ، وتمردت على زوجها ، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرسًا من الأعراس الضاحكة ، مناحة قائمة لا تهدأ نارها ، ولا يخبو أوارها ، وقلتم لها : " لا بد لك أن تختاري زوجك بنفسك ؛ حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك " فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها ، فلم يزد عمر سعادتها عن يوم وليلة ، ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم ، وقلتم لها : " إن الحب أساس الزواج " فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج فغنيت به عنه ، وقلتم لها : " إن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها " وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق ، فأصبحت تبغي كل يوم زوجًا جديدًا يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم ، فلا قديمًا استبقت ، ولا جديدًا أفادت ، وقلتم لها : " لا بد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك ، والقيام على شؤون بيتك ، فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها والقيام على شؤون بيتها ، وقلتم لها " " نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا وشعورها شعورنا " فرأت أن لا بد لها أن تعرف مواقع أهوائكم ومباهج أنظاركم لتتجمل لكم بما تحبون ، فراجعت فهرس حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات والضاحكات اللاعبات ، والإعجاب بهن والثناء عليهن ؛ فتخلعت واستهترت لتكسب رضاكم وتنزل عند محبتكم ، فأعرضتم عنها ونبوتم ، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة وقد أباها الرفيع وترفع عنها المحتشم .
    فهل تودون أن تتحول المرأة المسلمة إلى هذه الصورة الساقطة بعد تلك الحياة العفيفة المطمئنة . نسأل الله أن يصلح أحوالنا ، وأن يستر عيوبنا .
    وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .


قَوامة الرجال على النساء

سيد قطب

20s3.JPG (73914 bytes)

قال تعالى : ( الرجال قّوامون على النسـاء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبمـا أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضـاجع واضربوهن فإن أطعنـكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً * وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيرا) .

إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته الزوجية ، شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) . الذاريات:49

ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها ) . النساء:1

وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة بعد ذلك فيما أراد ، أن يكون هذا اللقـاء سكناً للنفس ، وهدوءًا للعصب ، وطمأنينة للروح ، وراحة للجسد… ثم ستراً وإحصاناً وصيانة… ثم مزرعة للنسل وامتداداً للحياة ، مع ترقيـها المستمر في رعاية المحضن الساكن الهادىء المطمئن المستور المصون :(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) . الروم:21 ، ( هـن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . البقرة:187 ،       ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثـكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله ) . البقرة:223 ،       (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ) . التحريم:6 ، (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) . الطور:21.

ومن تساوى شطر النفس الواحدة في موقفها من الله ، ومن تكريمه للإنسان ، كان ذلك التكريم للمرأة ، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله تعالى ، وفي حقوق التملك والإرث ، وفي استقلال الشخصية المدنية .

لقد خلق الناس ذكراً وأنثى، زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع ، وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل ، وهي وظائف ضخمة أولاً، وخطيرة ثانياً ، وليس هينة ولا يسيرة ، بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى، فكان عدلاً كذلك أن ينوط بالشطر الثاني  _ وهو  الرجل _ توفير الحاجات الضرورية ، وتوفير الحماية كذلك للأنثى ، كي تتفرغ لوظيفتهـا الخطيرة ، ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل .. ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد  وكان عـدلاً كذلك أن يمنح الرجـل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعيـنه على أداء وظائفه هذه ، وأن تمنح المرأة في تكوينهـا العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك .

وكان هذا فعلاً … ولا يظلم ربك أحداً …

ومن ثم زُودت المـرأة فيما زُودّت به من الخصـائص بالرقة والعطف ، وسرعة الإنفعال ، والإستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير ؛ لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها حتى في الفرد الواحد لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه ، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية ، لتسهل تلبيتهـا  فوراً ،

وفيما يشبه أن يكون قسراً ، ولكنه قسر داخـلي غير مفروض من الخـارج ،

 ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان ، كذلك لتكون الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى مهما يكن فيها من المشقة والتضحية ، صنع الله الـذي أتقن كل شيء .

وهذه الخصائص ليست سطحية ، بل هي غائـرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة ، بل يقول كبار العلماء المختصين : إنها غائرة في تكوين كل خلية ، لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى ، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين ، بكل خصائصه الأساسية !!

وكذلك زُوِّد الرجل فيما زُوّد به من الخصائص بالخشونة والصلابة وبطء الانفعال والاستجابة ، واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة ، لأن وظائفـه كلها ، بداية من الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة ، إلى القتال الذي يمارسه دائماً لحماية الزوج والأطفـال ، إلى تدبير المعاش ، إلى سـائر تكاليفه في

الحياة ؛ لأن وظائفه كلها تحتاج  إلى قدر من التروي قبل الإقدام ، وإعمال الفكر والبطء في الاستجابة بوجه عام ! وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها .

وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة ، وأفضل في مجالهـا … كما أن تكليفه بالإنفاق وهو فرع من توزيع الاختصاصات يجعله بدوره أولى بالقوامة ، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة ، والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها .

وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني ، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد ، ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات ، ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية، وتكليف كل شطر في هذا التوزيع بالجانب الميسر له ، والذي هو معـان عليه من الفطرة .

وأفضليته في مكانها ، في الاستعداد للقوامة والدربة عليها ، والنهوض بها بأسبابها،  لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة كسائر المؤسسات ، الأقل شأناً ، والأرخص سعراً ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها ، معان عليها ، مكلف تكاليفها ، وأحد الشطرين غير  مهيأ لها ، ولا معان عليها … ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخـرى ، وإذا هو هُيئ لهـا بالاستعدادات الكامنـة ، ودُرّب عليها بالتدريب العلمي والعملي ، فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى ، وظيفة الأمومة … لأن لها هي الأخرى مقتضياتهـا واستعداداتهـا ، وفي مقدمتها سرعة الإنفعال ، وقرب الاستجـابة ، فوق الاستعدادات الغـائرة في التكوين العضوي والعصبي ، وآثارها في السلوك والاستجابة .

إنها مسائل خطيرة ، أخطر من أن تتحكم  فيها أهواء البشر ، وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء .. وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة ، هددت البشرية تهديداً خطيراً في وجودها ذاته ، وفي بقـاء الخصائص الإنسانية ، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز .

ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها ، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لهـا …

لعل من هذه الدلائل : ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد ، ومن تدهور وإنهيار ، ومن تهديد بالدمار والبوار ، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة ، فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة ، أو اختلطت معالمها ، أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصيلة .

ولعل من هذه الدلائل : توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة ، وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة ، عندما تعيش مع رجل ، لا يزاول مهام القوامة ، وتنقصه صفاتها اللازمة ، فيكل إليها هي القوامة ، وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام!

ولعل من هذه الدلائل أيضا : أن الأطفال الذين ينشئون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب ، إما لأنه ضعيف الشخصية - بحيث تبرز عليه شخصـية الأم وتسيطر ، وإما لأنه مفقود - لوفاته ، أو لعدم وجود أب شرعي - قلما ينشئون أسوياء ، وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ مـا ، في تكوينهـم العصبي والنفسي ، وفي سلوكهم العملي والخلقي .

من كتاب ((المرأة في ظلال القرآن )) جمع عكاشة عبد المنان

 تحرير المرأة .. من خطاب التحرير الى واقع القمع

   د. محمد يحيى

40x7.JPG (53920 bytes)

أخيراً انضم تاريخ عام 1899 في الذكرى المائة لصدور كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" إلى قائمة الأعياد المقدسة في التقويم العلماني العام بعد مرور مرحلة طويلة من التطويب وصولاً إلى رتبة القداسة , كما تفعل الكنيسة الكاثوليكية وغيرها مع قدِّيسيها , وتميَّز وصول قاسم أمين أو كتابه إلى رتبة القديسين العلمانيين بوجود أصوات منشقة في النسويات المغاليات , تستنكر أن يكون محرر المرأة الأول رجلاً , وتعتبر استمرار  تقديس  قاسم أمين ، أو  كتابه استمراراً للنزعات الأبوية المتسلطة الرجعية .

كذلك تميز العيد العلماني بظاهرة لا نجدها كثيراً في الأعياد الدينية , وهي أن الاحتفاء بمؤسس العقيدة لم يشمل ترتيل وإنشاد كتابه المقدس ووحيه إلى البشر الفانين الخاطئين (البشر الرجال فقط !) , ربما لأن المحتفلين وجدوا أن ترتيل هذا الكتاب المقدس سيفضح مدى قدم وبلى فكر وأسلوب صاحب العيد , مقارنة بالتطور الكبير الذي لحق بالمذهب منذ تأسيسه , والحق أن أحد الجوانب التي نادراً ما تُبحث في خضم الكلام الكثير حول قاسم أمين وفكره وحركة تحرير المرأة - التي يفترض أنه مؤسسها - هو تطور وتحول وتبدل وتنوع , بل وتناقض وتضارب الكم الهائل من المقولات والأفكار والدعوات التي تدرج عادة تحت مسمى ديني تحرير المرأة العلماني , لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر - كما يقول المثل المبتذل - منذ نشر "تحرير المرأة" وبهتت خلال مائة عام صورة الكاتب الليبرالي البورجوازي الذي يجلس وسط أثاث وأفكار القرن التاسع عشر (المستورد كله - الخشب والقيم) ؛ ليحرر المرأة المصرية أو المسلمة (لم تكن المرأة العربية وُلدت بالطبع وبالتأكيد لم توجد في فكر قاسم أمين الكردي الأصل فيما يقال) , وحلت محلها الآن صورة "النسوية" الثائرة التي تجلس وسط أثاث وأفكار القرن العشرين (المستورد كله - الألمنيوم والشعارات) لتحرر المرأة المصرية والعربية , مدعومة بأموال الهيئات "الخيرية" والكنيسة والحكومية الأوروبية الأمريكية , والفارق ليس في أن قاسم أمين كان ليبرالياً وبورجوازياً بينما لم تكن خليفاته بعد قرن كذلك (فهن أكثر بورجوازية وإن كن أقل ليبرالية بكثير) , أو لكن الفارق هو في الدعم المالي والشيكات الأوروبية الصريحة .

 وإذا جاز أن نختزل التطور الحادث على مدى قرن في عبارة واحدة , نستبق بها أطروحة هذه المقالة لقلنا إن التطور منذ نزول الوحي - وسط غرف القرن التاسع عشر المكدسة بالأثاث - وحتى الإعلان الرسمي عن التطويب كان تطوراً من خطاب التحرير إلى خطاب وممارسة القمع من جانب المؤمنين بكنيسة "التحرير النسائي" ودولتهم , والقضية الحقيقية ليست فيما قاله قاسم أمين أو لم يقله - على الرغم من أنه "صاحب الفرح" حسب التعبير العامي - لكنها في مسار خطاب معين من حالة إلى حالة , أو حالات أخرى تحت تأثير عوامل وقوى مختلفة ليقدم لنا حالة كلاسيكية من حالات تفاعل الخطاب مع المجتمع , كما بحثها المفكرون الأوروبيون المحاصرون من أمثال ميشيل فوكوه وغيره .

 وُلد خطاب "تحرير المرأة" - ولا يهم إن كان قاسم أمين هو الذي بدأه أم غيره ؛ فهذه قد تكون في نهاية الأمر مصادفة تاريخية غير ذات مغزى - في مصر في اللحظة التي كان يجب أن يولد فيها ؛ فذلك هو عصر أَوْرَبَة أو تغريب مصر والعالم الإسلامي وعصر العلمنة المستندة إلى الفكر الغربي السائد في تلك الفترة , وهو الليبرالية البورجوازية "المستنيرة والتقدمية والعلمانية" بأصواتها النفعية والبراغماتية والديموقراطية الاجتماعية , و"تحرير المرأة" أو "انعتاق المرأة" يمثل أحد دعائم هذا الفكر الغربي منذ مطلع القرن التاسع عشر , إما بصورة بارزة ورئيسية منذ أيام ماري جوردين أو بصور فرعية تابعة للمذهب الفكري الرئيسي عند بنتام أو سبنسر أو إنجلز مثلاً , وتحرير وانعتاق المرأة - كما يسمى - نجده في حركة حق الاقتراع عالية الصوت , واسعة الانتشار , كما نجده في مشروعات الاشتراكيات الطوباوية وغير الطوباوية وحركات "إصلاح" أوضاع المرأة القانونية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية , وتحرير المرأة في إطار الفكر الليبرالي البورجوازي العلماني الغربي له مكانته في مشروع ذلك الفكر لمراجعة وتنقيح "القديم" و"الرجعي" و"المتخلف" و"الديني" و"التقليدي" , وكلها أعداؤه المألوفون , تحرير المرأة له مكانة في المشروع الليبرالي لمراجعة التاريخ الأوروبي الغربي سعياً وراء التقدم والكمال البشري , وهي أهدافه المشهورة في القرن التاسع عشر , وهو تحقيق لأركان المساواة والفردية والارتقاء التي تعد أعمدة الليبرالية وأسسها الكبرى , والعدو الذي يتصدى "تحرير المرأة" له هو الدين (المسيحي) والتقاليد والتراث والتاريخ التي يفترض أنها تستعبد وتُخضع المرأة , وتحرير المرأة في الفكر الليبرالي العلماني عملية فكرية اجتماعية قانونية تعليمية بحتة - بجانب ناحية حق الاقتراع للنساء - لا تتجاوز ذلك إلى طرح أسس وأركان المجتمع البورجوازي الرأسمالي العلماني للتساؤل والتشكك أو إلى طرح فكرة الثورة النسائية الشاملة ؛ فتلك كانت تطورات لاحقة على ذلك الفكر .

 كانت دعوة قاسم أمين إذن - أو غيره - طبيعية أو حتمية في ظل حالة العلمنة والتغريب العاتية التي خضع لها المجتمع المصري , صحيح أن التغيرات والتعديلات المناسبة قد أُدخلت كما ينبغي ؛ فالعدو الآن الذي يجب تحرير المرأة منه - هو الدين (الإسلامي) أو "التفسيرات الخاطئة" له حسب التعبير الذي أصبح مألوفاً لطرحه على سبيل التَّقِيَّة , ومعه التراث والعادات والتقاليد والتاريخ (وكلها ليست بريئة بالطبع) , والهدف هو "الإصلاح" وصولاً إلى أهداف التقدم والاستنارة العقلانية العلمانية والمساواة .. الخ والتي أصبحت - بعد فترة وعلى سبيل التقية كذلك - توصف بأنها هي "صحيح الإسلام" أو "روح الدين" أو "مقاصد الشريعة" وما شابه , وفي تلك المرحلة - ولعلها هي العهد المكي لوحي تحرير المرأة - كان الطرح "إصلاحياً" في إطار تعديل القوانين والحث على تعليم المرأة وتحسين النظرة إليها والدعوة لفك ما وصف بأنه القيود الموضوعة على عمليات التفاعل الاجتماعي (الاختلاط , العمل , الاشتغال بالأمور العامة) أو تخفيفها , ولم يكن ذلك الطرح الاجتماعي الإصلاحي ذو الحدود استجابة فقط لظروف الأوضاع والحساسيات الدينية في تلك الفترة , وإنما كان أيضاً نقلاً أميناً لمستوى ومدى طرح قضية تحرير المرأة في إطار الفكر الليبرالي العلماني وتفريعاته .

كان من المحتم - إذن - أن يُطرح دين أو مذهب تحرير المرأة في سياق العلمنة والتغريب للمجتمع المصري على الصورة التي طرحه بها قاسم أمين كصوت أو قناع أو حامل لذلك المكون من الفكر الغربي , وهذه هي بداية الخطاب ونهايته كذلك , نقْل أمين يسير مع مسارات تطور "الفكر الأم" في الغرب , ويطرح شعاراتها , ويهتم بهمومها , ويتخذ أهدافها , ويتنوع , ويتغير مع تنوعها وتغيرها ويتسع ويضيق ويعلو ويهبط مع حركاتها ؛ ذلك هو خطاب التحرير .

لكن خطاب التحرير بدعواته الملحة للتحرر والانعتاق والخلاص وفك القيود وإزالة العوائق وفتح الآفاق .. الخ - كان ينطوي منذ البداية على مفارقة جعلته وهو يكمل المائة عام , ويصل إلى مرتبة التكريس والتقديس الديني العلماني الكامل - عُرضة للتحوُّل بكل معاني الكلمة إلى نقيض التحرير وهو القمع , وهذه المفارقة هي توجهه الكامل إلى النساء دون الرجال (نصف المجتمع !) , ومعاداته للدين في تقليد أمين للفكر الأم في الغرب .

إن الاشتباك مع الدين (الإسلام) جاء لا لأن الإسلام يعادي أو يقمع المرأة , ولكن لأن النبع الأم كان يعادي الدين (المسيحية) في الغرب انطلاقاً من علمانية الفكر الليبرالي البورجوازي , صحيح أنه كان هناك حديث - على استحياء في أحيان كثيرة - حول التفسير الفاسد للدين الذي يطغى على التفسير "الصحيح" (الذي يفترض أن العلمانيين وحدهم قد أُوتوا مفاتحه !) , وصحيح أن الكثير من الشعارات التحريرية النسائية مثل تعليم وتكريم وعمل وتفاعل المرأة مع المجتمع وإصلاح التقاليد والعادات الموروثة .. الخ - كانت بسهولة تندرج تحت المسموح بل المرغوب والواجب الديني لو جرِّدت من السياقات العلمانية التغريبية التي وُضعت فيها (على سبيل التعمية في أحيان) , ولكن من الصحيح كذلك أن دعوة تحرير المرأة كدعوة أو تيار أو مذهب أو فكرة أو برنامج - سَمِّها ما شئت - لم تضع نفسها منذ البداية وخلال تطوراتها داخل السياق الإسلامي وهو السياق الوطني والثقافي الذي تنشط داخله , بل رأت نفسها أو رأى لها البعض أنها داخل عملية العلمنة والتغريب التي وُصفت بألقاب التحديث والعصرنة والاستنارة والتقدم وما إلى ذلك , وكان أن سارت تلك الحركة كمكون أساسي في عملية العلمنة والتغريب وكأحد أسلحتها الرئيسية في مواجهة الإسلام والفكر الديني , بل لقد غلب هذا الطابع الأداتي في معظم الأحيان على سلوك وخطاب الحركة مما أوصلنا في نهاية المطاف - ومع اكتمال قرن التطويب لقاسم أمين - إلى أن يصبح خطاباً للقمع , قمع الرجال وقمع المجتمع المسلم على يد التيار العلماني التغريبي العام , الذي أصبح الآن ينتحل أسماءً براقة لترويج بضاعته من العولمة إلى القرن الواحد والعشرين .

 والمشكلة تكمن في التوجه الأصيل لفكر تحرير المرأة الغربي ضد التغيير الثوري الواسع النطاق للمجتمع الليبرالي البورجوازي الرأسمالي , وقصرها "للتحرير" والتغير الراديكالي على مكون واحد هو المرأة مع الإغفال التام بل والعداء للمكون الآخر - الرجال (نصف المجتمع !) , إنها حركة عرجاء تلك التي تنطلق من مسلَّمات عاطفية غوغائية (وذلك باسم العقلانية !) , حول الاضطهاد الأزلي للنساء كنوع من جانب الرجال كنوع , ثم تصل من ذلك إلى برنامج "ثوري" لإصلاح تلك الأوضاع الاضطهادية مع تثبيت سائر أحوال المجتمع سياسية واقتصادية أو طبقية على ما كانت هي عليه , أي على النموذج الليبرالي البورجوازي الرأسمالي , ومن البدهي أن حركة كتلك - في الغرب وفي الشرق على حد سواء بل في الشرق بالأكثر - تكون موضع ترحيب وتحبيذ بل وتشجيع وخلق من العدم لدى كل السلطات القائمة من الملكية إلى الجمهورية وما بينهما وما بعدهما , وبالذات للدكتاتوريات والأنظمة الطاغوتية ؛ لأنها توجه طاقة التغير الثوري التي تضطرم بها العقول والمجتمعات , لا إلى تلك الطاغوتيات , وإنما إلى عنصر الرجال وحدهم داخل وخارج مؤسسة الزواج والأسرة (بل داخلها على وجه التحديد) , ولا توجه تلك الطاقة إلى تغيير أوضاع القهر والقمع السلطوي .

والمفارقة تصل إلى الذروة عندما نجد أن الحركة المنطلقة من فكر التحرير تدعو إلى التضييق والتقييد في مواجهة الرجال باعتبارهم العدو الذي ينبغي هزيمته وتحجيمه وضد الدين (الإسلام) باعتباره المحرض الفكري على استعباد النساء في أروج تفسيراته (ليست مصادفة بالمناسبة أن دعاة "تحرير المرأة يفضلون استخدام كلمات "الحد" و"التقييد" و"الحظر" و"المنع" عندما يتعلق الأمر - مثلاً - بحقوق الرجال المسلمين في إيقاع الطلاق أو رخصة تعدد الزوجات أو القوامة على الأسرة) , والحركة المنطلقة من فكر التحرير والخلاص والانعتاق تدعو في مصر على مر تاريخها - وبالذات في الآونة الأخيرة - إلى تحديد وتقييد بل إلى حظر ومنع الفكر الديني الإسلامي بعد أن تدعي أنه يعادي حقوق المرأة ولا تقبل بوجوده إلا عندما يستبطن منطلقاتها بدون تحفظ , وهي في نفس الوقت تدعو إلى قبول "الآخر" الفكري والنسوي والحركة التي تنطلق من شعار المساواة (أو كانت تفعل ذلك في الماضي) تدعو إلى سياسات "العمل الإيجابي" التي تنحاز للنساء وتفضلهن وتميزهن عن الرجال في مجالات العمل والوظائف والقروض الاقتصادية وفرص المشتروات الحكومية والسياسات التعليمية .. الخ ؛ بحجة أن ذلك تعويض عن ذلك الظلم التاريخي أو حتى ما قبل التاريخي المزعوم الواقع على المرأة , والأمثلة كثيرة , لكنها تصب كلها في مجرى واحد , دعوة التحرير والانعتاق توجه إلى "نصف المجتمع" - كما يقولون - لكنها لا تتوجه إلى النصف الآخر الذي يُفترض في مسلمات تلك الحركة أنه يمارس القهر والقمع على المرأة مدعوماً بسلطة الدين ؛ ولذا يجب قمعه هو بتبرير أنه هو البادئ بالقمع في زعم لا سند له إلا في إطار طروحات ومسلمات ومقدمات تلك الحركة نفسها المطروحة بأسلوب عاطفي لا عقلاني , وفوق ذلك فإن التغيير الثوري المطلوب (وهو ثوري للغاية في طروحات الفكر النسوي الذي أطل علينا في مصر من الثمانينات وفي الغرب من أواسط الستينات) - يركز فقط على الأسرة وأوضاع المرأة الاجتماعية والاقتصادية تاركاً سائر أوضاع المجتمع - وبالتحديد وضع السلطات القائمة والنظام الاقتصادي السياسي المهيمن - بدون تغير , بل يثبتها ويدفعها إلى الوراء من الناحية الديموقراطية والسياسية والاجتماعية بقهر وقمع الرجال كنوع , ثم قهر وقمع الدين كوعاء للجماعة الوطنية وثقافة وتاريخ الأمة .

إن حركة كانت بدايتها على هذا النحو من المفارقة والتناقض - كان لابد أن تتخذ المسار الذي سارت فيه لتنتهي إلى أحد أهم أدوات سياسات القمع والقهر الاجتماعي والثقافي بل والسياسي داخل منظومة الدكتاتوريات الطاغوتية , فإذا كانت حركة "التحرير" قد بدأت باشتباك أو تداخل مع الدين كان يمكن أن يُحَل بالتخلي عن الخلفية الأيديولوجية (العلمانية المتغربة) لها , مع القبول بتحقيق أهداف الإصلاح الاجتماعي لوضع المرأة داخل المنظومة والمشروع والبرنامج الإسلامي لحلت المشكلة (وليس هنا مجال طرح النقاش والجدل حول سبب فشل أو عدم فشل المشروع الإسلامي الناهض في التعامل مع قضية المرأة , لكن يكفي القول إن "قضية المرأة" لم توجد بالنسبة لهذا المشروع من حيث المصطلح والفكر ؛ لأنه بالفعل يعالجها في أطره الخاصة وفي سياق الأحكام الشرعية والعقائدية والعملية الخاصة , كما أن أولوياته شمولية وليست جزئية عنصرية , ولا داعي بعد ذلك للتأكيد على وضع المرأة المعروف في الإسلام) , لكن الذي حدث على مر القرن التحريري المعلَن عنه كان العكس تماماً ؛ فقد ازداد باطراد تمسك وجهر تلك الحركة النسوية بالسياق الأيديولوجي العلماني المتغرب في الوقت الذي تخلى فيه منازِلوها أو محاوِروها من الإسلاميين عن خلفيتهم العقائدية كلما سعوا للاقتراب منها أو التحالف معها أو التعامل مع مطالبها وطروحاتها واستبطانها , ونشأ وضع غريب نجد فيه ساحة أو حلبة من المطالب المطروحة بحجج تحسين أو إصلاح أو إنصاف أوضاع المرأة وفتح الطريق لتقدمها , وفي هذه الساحة فارسان هما أنصار حقوق المرأة كما يزعمون لأنفسهم والفكر الديني الإسلامي , والطرف الأول لا يعلن صراحة وجهراً عن خلفيته الأيديولوجية , بينما يتمسك بها كهدف نهائي لدعوته وكخلفية فكرية لشعاراته ومطالبه , بينما الطرف الثاني يُطلب منه أن يتخلى عن هذه العقائدية , وأن يعالج الأمور والمطالب والقضايا المطروحة كمجرد مشكلات أو مسائل اجتماعية , عليه أن يجد لها الحل والتكييف المطلوبين من الطرف الأول , وعادة ما يفعل الطرف الإسلامي ما يُطلب منه ؛ وهنا نصل إلى الكم الهائل من الفتاوى والمعالجات لقضية المرأة كما تسمى , والذي تعودنا عليه منذ الأيام الأولى للقرن التحريري وحتى الآن , وتزداد براعة ذلك الكم مع مرور الزمن في إثبات أن الإسلام يدعو بالضبط لنفس المطالب والتصورات التي تنادي بها حركة تحرير المرأة , وهذا شيء طبيعي ومتوقع طالما أن العملية تسير منذ البداية في إطار طرح قوي من جانب يتمسك بأيديولوجيته وطرح ضعيف أو متمشٍ من الطرف الآخر الذي يوهمونه بأن عليه التخلي عن أيديولوجيته الخاصة والنزول إلى الحلبة مجرداً منها ؛ لأن العملية مجرد مسألة اجتماعية عملية "مدنية" بحتة لا مجال فيها للحديث عن العقيدة والشريعة , وهذا هو أحد أهم وسائل وأساليب القمع الذي تمارسه حركة "تحرير المرأة" قِبَل الإسلام - بالذات - من خلال لعبة الاستدراج إلى حلبة المطالب والقضايا بعد إغرائه أو إجباره على أن يخلع قفازه الأيديولوجي (إن جاز التعبير) خارج الحلبة , بينما تدخل الحركة وقد وضعت قفازها هي - وإن بشكل مضمر - فتكون النتيجة هي الهزيمة للطرف الإسلامي الذي يسلم بكل القضايا والمطالب والمصطلحات والسياقات والتطورات التي تطرحها تلك الحركة ؛ متصوراً أنه بذلك قد حقق نجاحاً باهراً في إثبات أن الإسلام ينصف المرأة , وأنه قد جاء منذ عشرات القرون بما لم يتوصل إليه الفكر الحديث إلا في القرن التحريري , لكن هذا الزهو بالنجاح في تحقيق "تحرير المرأة منذ عهد النبوة" يخفي حقيقة أن الفكر المتفاخر يتخلى عن كل قسماته الأيديولوجية المميزة ويستبطن الأيديولوجية العلمانية , وهو يفعل ذلك متصوراً أنه إنما يخرج بمجرد فتاوى وتصورات اجتهادية فرعية , القمع هنا قمع خفي إلى نحو كبير , ويعتمد على ممارسة نوع من الخداع معروف في السياسات الأيديولوجية الغربية .

 لكن القمع الأكبر والأوضح والأخطر يظل هو ما تمارسه حركة تحرير المرأة في تحالفها المقدس الذي تبلور في العقود - بل الأعوام الأخيرة - مع الأنظمة الحاكمة الطاغوتية , وإذا كنا سمعنا عن اتفاقات من طراز النفط في مقابل الغذاء (العراق مع الأمم المتحدة) أو الأرض مقابل السلام (الكيان اليهودي مع منظمة التحرير) - فإن ذلك التحالف المقدس يمكن تسميته بالسلطة مقابل المساندة والتبرير والصرف بين الأنظمة وحركة تحرير المرأة ! , التي تخلت عن أيديولوجية البورجوازية العلمانية , وأصبحت تعلن أيديولوجية مستقلة هي ما يسمى الفكر النسوي الأمريكي - الأوروبي النشأة , والذي كان منذ أواسط الستينات أحد أبرز الأسلحة الموجهة من ترسانة الغرب ضد الماركسية الثورية , والآن ضد الإسلام الثوري وحتى غير الثوري , والاتفاق الجديد أو التحالف سهل في تركيبه ؛ فالأنظمة والسلطات الدكتاتورية - كما قلنا من قبل - تستقطب إن لم تخلق الحركات النسوية , وتعطيها نصيباً كبيراً من كعكة السلطة , ممثلاً في الوصول إلى مفاتح الإعلام القوي وحرية الحركة والتنظيم والدعاية وتقنين مطالبها في التشريعات , وتعيين رموزها في المناصب الكبرى والمتوسطة , و"التمكين" لها في نشاطات الحياة الاجتماعية مقابل توجيه وتسليط تلك الحركات لكل دعايتها ونفوذها المكتسب الجديد ضد التيارات الإسلامية , وكذلك لصب المزيد من القهر والقمع على الرجال كنوع , والسلطات الطاغوتية ترحب بذلك المنحى الأخير ؛ لأن الرجال هم - في نهاية الأمر - الوعاء الكامل لأي تغير ثوري أو راديكالي أو حتى سياسي في المجتمعات العربية , وفي مقابل منحة القوة تلك للحركات النسائية تكسب الأنظمة - ليس فقط الضرب والقمع لخصومها الإسلاميين وتحييد الإمكانية الثورية في المجتمعات صوب التغيير الجذري لقواعد الحكم والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السلطوي - وإنما تكسب كذلك سمعة باعتبارها أنظمة تقدمية مستنيرة , وتكسب رضا السادة العلمانيين في الغرب , وتكسب إبعاد النظر عن قضايا المجتمع الكبرى العامة , وتحويل هذا الاهتمام إلى "قضية" المرأة - كما تسمى - وهي في الحقيقة ليست قضية المرأة والنساء على عكس ما يزعمون ؛ لأن المسألة عندهم تنحصر في نهاية المطاف في تعديلات لقوانين الأحوال الشخصية (تقييد الطلاق , إلغاء رخصة تعدد الزوجات , سلب الرجل حق إيقاع الطلاق .. الخ) , وفي الطنطنة بتعيين أو تشغيل النساء في وظائف , من العمل بالمناجم إلى جمع القمامة وصولاً إلى سفيرات الخارجية وضابطات الجيش .

  وإذا كانت قضية المرأة تُختزل في النهاية إلى مجرد سلب الرجل حق الطلاق أو وضع النساء في خط النار ؛ فبئست القضية تلك التي تخاطب إفقار وتجويع النساء والأطفال والرجال وسلبهم هويتهم الدينية والوطنية , وبئست القضية تلك التي تجعل قضية المرأة تنحصر في سلب حقوق الرجال دون مكاسب حقيقية لها , ولعل أفدح الأمثلة على هذا التحالف المقدس (أو غير المقدس) بين الأنظمة الطاغوتية العلمانية وبين "الحركات النسائية" - هو ذلك التصريح الذي أدلت به زوجة زعيم عربي مؤخراً تقول فيه إن بلادها لديها أفضل قانون أحوال شخصية في العالم (قانون بورقيبة) , وذلك في وقت كانت تقارير منظمات حقوق الإنسان تدين ممارسات نظام ذلك البلد اللاإنسانية واللاديموقراطية ضد خصوم الرأي والفكر بجانب الإسلاميين , واحتفالية مئوية كتاب قاسم أمين هي نفسها التجسيد النهائي والرسمي لهذا التحالف .

إن الضجة التي نُصبت لذكرى كتاب "تحرير المرأة" وتحويل هذا النص إلى عمل مقدس تخفي في الحقيقة وتموّه على تاريخ مؤلم وطويل من فرض خطاب علماني ومتغرب النزعة على الأمة بالقوة ؛ ليكون خطاب وممارسة قمع وقهر ضد دينها وضد رجالها , ولكن ليس لصالح نسائها على عكس ما يزعم له من أنه خطاب تحرير وخلاص وانعتاق , إنه خطاب يزعم التحرير ويمارس القمع قولاً وممارسة حسب ما ألمحنا إليه فيما سبق , وهو خطاب يزعم تحقيق الخلاص , لكنه يحقق العبودية في الفكر وفي الممارسة وصولاً إلى العمالة الصريحة في التمويل الأجنبي للناطقين باسم الحركة وأعوانهم .

وهو خطاب يبدأ بالحديث عن تحرير "نصف المجتمع" ثم ينسى "النصف الآخر" , ويصل إلى اعتبار "المرأة" المجتمع كله , ثم ينتهي بالتبشير بفرض القمع والقهر - ليس فقط على النصف الآخر الرجالي المنسي - ولكن على الأمة كلها (نسائها ورجالها) بكبت ومصادمة دينها وعقيدتها وتاريخها لصالح المشروع العلماني المفروض في الغرب , ويتحالف مع قوى الطاغوت والدكتاتورية التي تنظم له الاحتفال بالتحرير !